*55* النفس وأنفسها

  • Creator
    Topic
  • #1346
    Tasneem
    Keymaster
    • المشاركات: 2,176
    بسم الله الرحمن الرحيم
    اللهم صل على محمد وآل محمد
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    النفس وأنفسها

    ما ينطق به القرآن الناطق لا بد أن نجد أثره واختصاره في القرآن الصامت وقد ورد عنهم صلوات الله عليهم روايات عديدة تتحدث عن النفس وأجزائها مثل هذه الرواية مثلا:

    روي (ان أعرابيا سأل امير المؤمنين عليه السلام عن النفس فقال له عن اي نفس تسأل فقال: يا مولاي هل النفس أنفس عديدة؟
    فقال عليه السلام: نعم نفس نامية نباتية، ونفس حسية حيوانية، ونفس ناطقة قدسية، ونفس إلهية ملكوتية كلية.

    قال: يا مولاي ما النامية النباتية؟

    قال: قوة أصلها الطبايع الاربع بدو إيجادها مسقط النطفة، مقرها الكبد، مادتها من لطايف الأغذية، فعلها النمو والزيادة، وسبب فراقها اختلاف المتولدات فاذا فارقت عادت إلى ما منه بدأت عود ممازجة لا عود مجاورة.

    فقال: يا مولاي وما النفس الحسية الحيوانية؟

    قال: قوة فلكية وحرارة غريزية أصلها الافلاك بدو ايجادها عند الولادة الجسمانية فعلها الحياة والحركة والظلم والغشم والغلبة واكتساب الاموال والشهوات الدنيوية مقرها القلب سبب فراقها اختلاف المتولدات، فاذا فارقت عادت إلى ما منه بدأت عود ممازجة لا عود مجاورة فتعدم صورتها ويبطل فعلها ووجودها ويضمحل تركيبها.

    فقال: يا مولاي وما النفس الناطقة القدسية؟

    قال: قوة لاهوتية بدو ايجادها عند الولادة الدنيوية، مقرها العلوم الحقيقية الدينية، موادها التأييدات العقلية، فعلها المعارف الربانية، سبب فراقها تحلل الآلات الجسمانية، فاذا فارقت عادت إلى ما منه بدأت عود مجاورة لا عود ممازجة.

    فقال: يا مولاي وما النفس اللاهوتية الملكوتية الكلية؟

    فقال: قوة لاهوتية جوهرة بسيطة حية بالذات أصلها العقل منه بدت وعنه دعت وإليه دلت وأشارت وعودتها إليه إذا كملت وشابهته، ومنها بدأت الموجودات وإليها تعود بالكمال فهو ذات الله العليا وشجرة طوبى وسدرة المنتهى وجنة المأوى، من عرفها لم يشق، ومن جهلها ضل سعيه وغوى  .

    فقال السائل: يا مولاي وما العقل؟

    قال: العقل جوهر دراك محيط بالاشياء من جميع جهاتها، عارف بالشيء قبل كونه، فهو علة الموجودات ونهاية المطالب).انتهى

    فأين نستطيع أن نجد ذكر هذه الأنفس وقواها في القرآن الصامت؟

    قبل أن نتجه للبحث في القرآن الصامت سنحاول أن نحلل أو أن نتدبر هذه الرواية لنكتشف بعض معانيها وبعض معاني ألفاظها الشريفة

    ونبدء بسؤال الأعرابي وابتداء جواب أمير المؤمنين عليه السلام، فقد سأل الأعرابي أمير المؤمنين أن يبين له بعض شؤون النفس فقال له أمير المؤمنين عن أي نفس من الأنفس تسأل، ففهم الاعرابي من سؤاله سلام الله عليه فهم معين وأيده أمير المؤمنين به من أن النفس الانسانية ليست نفس واحدة، بل هي مركبة من عدة أنفس، وأوضح له تاليا أن كل نفس منها لها وضيفة محددة بدقة، وعددها سلام الله عليه بأسمائها له،

    وحينها أخذ الفضول من الأعرابي فبدء يسأل عنها واحدة واحدة، بمعنى أنه أراد التفصيل، فانطلق أمير المؤمنين يفصّل له شأن كل واحدة منها وقواها وابتدء قوله عن النفس النامية النباتية فقال إنها:

    قوة أصلها الطبايع الأربعة، فطبيعة هذه النفس الأصلية هي أنها قوة، وهذه القوة أصلها وحقيقتها هي أنها ليست مادة ولكنها قوة لا مادية، قوة نابعة من طبايع أربعة، وعليه فلا بد أن تكون تلك الطبايع الأربعة هي أيضا قوى لا مادية، فهي أربعة قوى لا مادية تجتمع بنسب معينة وبطريقة معينة فينتج من اجتماعها تلك القوة اللا مادية والتي هي أصل وجود وتكون النفس النامية النباتية ((المادية))

    واليوم حسب العلم الحديث فإنه يقول أن كل أشكال المادة التي نراها بالوجود من حولنا متكونة من أربعة قوى لا غير، وهي ((القوة الكهرومغناطيسية، والقوة النووية الضعيفة، والقوة النووية القوية، وقوة الجاذبية)) فكل ما له علاقة بالمادة التي نعرفها أصله هي تلك القوى الأربعة، فتلك القوى الأربعة تتمازج في الطبيعة بشكل مقصود بنسب متفاوتة ومختلفة ينتج منها وعلى أثرها كل ذلك التفاوت بالصور والخواص المادية للموجودات في العالم

    لكن هذه القوة والتي هي أصل النفس النامية النباتية هي قوة عاقلة لها فعل قصدي في المادة التي تشكلها، ولها مكان معين من النفس النامية النباتية ستستقر به بعد أن تشكله وتبنيه لكي تدير منه مجمل شؤونها أي شؤون النفس النامية النباتية، واسم هذه النفس يدل على نموها وتغير صورتها ومرورها بمراحل متعددة كما مراحل النباتات من بذرة وتفتق ونمو ويفوع وثمرة وكبرٍ فهرم فممات، وهذه النفس تبدء تكونها من لطايف الأغذية، وتعود أخيرا لتتحلل لما منه بدأت وتمتزج به

    بعبارة أخرى النفس النامية النباتية هي جسم الإنسان المادي وهي بدأها من التراب وستفنى أخيرا وتعود اليه مرة أخرى، أي ستعود للتراب عودة ممازجة، أي أن هذه القوة تنبعث من الأرض وستعمل بادئ الأمر على انشاء الجسم المادي من التراب، ثم ستعمل مرة أخرى على تحليله وتحويله الى تراب، فهذه القوة التي بدأت منها النفس النامية النباتية هي قوة أرضية موجودة في الأرض منها بدأت ومنها كونت النفس النامية النباتية وإليها ستعود لتمتزج بها مرة أخرى

    فالجسم المادي او النفس النامية النباتية تعتبر إذن جزء من قوة الأرض

    بعد ذلك عاد الأعرابي من جديد ليسأل عن النفس الحسيّة الحيوانية، ومرة أخرى عاد أمير المؤمنين سلام الله عليه ليؤكد أن أصل هذه النفس هي كذلك مثل النفس النامية النباتية أصلها أيضا قوة، ولكنها هذه المرة ليست قوة أرضية كالقوة التي منها النفس النامية النباتية، بل هي قوة سماوية مصدرها الافلاك السماوية

    فأصل النفس الحسية الحيوانية هو قوة سماوية تصدرها الأفلاك وتبثها في السماء لتحل بالأرض، أي أن القوة تنزل من السماء وتحل بالجسم عند ولادته، أي تحل بالنفس النامية النباتية عند وصولها لمرحلة معينة من النمو،

    وجميع الأفعال الصادرة من هذا الجسم من الظلم والغشم والغلبة واكتساب الاموال والشهوات الدنيوية والحياة والحركة إجمالا تُـنسب لهذه النفس الحسية الحيوانية النازلة من أفلاك السماء وحلت بهذه الأرض الصغيرة، أي في هذه النفس النامية النباتية

    والنفس النامية النباتية كما أنها في بادئ الأمر تبني وتنشيء لها مقرا خاصا بها في الجسم لتدير شؤنه منه وهو الكبد، فإنها تبني وتنشيء قبل ذلك مقر النفس الحسية الحيوانية التي ستنزل بها، فهي أول ما ستبني وتنشيء ستبني وتنشيء المقر الذي ستنزل به النفس الحسية الحيوانية أي أنها ستبني وتنشيء القلب،

    وهذا الأمر قد ثبت علميا، حيث أن البويضة عندما تتلقح وتستقر في مكانها تبدء بالانقسام 2-4-8-16-32-64-128-256-512-1024-2048 …..

    وتستمر على هذا المنوال بالانقسام حتى تكمل بناء القلب كاملا على شكل التفاحة، ثم تبدء بعد ذلك ببناء وتكوين بقية الأعضاء داخل القلب ثم تبدء بإخرجها منه واحد بعد الأخر لتأخذ مكانها الطبيعي خارجه، وأول ما ستكوّنه من الأعضاء وتخرجه من القلب هو اللسان، أي أن النفس النامية النباتية أول ما ستكمل بنائه هو القلب، ثم من داخل القلب ستبدء عملها وستنشيء اللسان قبل كل شيء ثم ستخرجه منه بادئا ذي بدء، أي أن أول ما سيخرج من القلب من الأعضاء سيخرج اللسان، ثم ستتبعه ببقية الأعضاء بالخروج عضوا بعد الآخر لتأخذ مكانها التكويني الطبيعي في الجنين حتى تحيط تلك الأعضاء أخيرا بالقلب من كل الجهات وتكون صورة الجنين كما نعرفها

    وهذه القوة الفلكية السماوية ستفارق الجسم أخيرا بسبب اختلاف المتولدات وستعود الى السماء أو إلى الفلك الذي منه صدرت وستمتزج معه مرة أخرى، بمعنى أن هذا الفلك هو نفسه نوع من القوة، قوة مماثلة في تكوينها للقوة التي ستنزل منه وتحل بالنفس النامية النباتية، ولكن هذا الفلك يستطيع أن يتجزء تكوينيا إلى أجزاء متعددة بدون أن يفقد من مزيته وقوته شيء، بدليل نزول بعض قوته في النامية النباتية ثم بعد حين سيسترجع الفلك نفس هذه القوة التي نزلت منه ليمزجها مع نفسه مرة أخرى فترجع هذه القوة النازلة الى هويتها الأصلية الفلكية فتفقد هويتها التي اكتسبتها عند النزول.

    ثم أكمل الاعرابي مستفسرا عن الناطقة القدسية، فعاد أمير المؤمنين من جديد ليؤكد أنها كذلك هي أيضا قوة، ولكنها ليست قوة فلكية سماوية، ولا قوة أرضية، بل انها قوة لاهوتية، وهذه القوة تبدء بعملها كجزء من النفس الإنسانية عند الولادة الدنيوية، وهي تعمل معتمدة على بحر العلوم الحقيقية الدينية الذي تسبح فيه، فتحول هذا البحر المعلوماتي لمواد وصور عقلية تبعثها للنفس الحسية الحيوانية الساكنة في قلب بدن النفس النامية النباتية،

    وهي ((أي النفس الناطقة القدسية)) متصلة بهما ((بكلا النفسين)) تؤيدهما وترفدهما بالتأييدات العقلية ما دامتا موجودتان لم تتحللا بعد، فإذا تحللتا تحقق الفراق بينها وبينهما فتعود هي بذلك الفراق الى ما منه بدأت، وستعود عود مجاورة لا عود ممازجة، مما يعني أن هويتها لن تفنى بهذه العودة، وستكون النفس الناطقة القدسية بذلك مؤهلة للعودة مرة أخرى للولادة الدنيوية مع نفس حسية حيوانية أخرى بنفس نامية نباتية أخرى، ولكن ذلك مرتبط بمشيئة الذي عادت اليه عود مجاورة، فعودتها إليه يعني خضوعها له وآمريته عليها

    وقبل أن نستمر بتدبر بقية ألفاظ هذه الرواية الشريفة ومعانيها نعيد تلخيص ما وصلنا له حتى الآن فـ:

    1-      جميع النفوس النامية النباتية مصدر انبعاثها من القوى الأرضية أي أن مصدرها من الأرض، فبدء انبعاثها وتكونها يكون من القوى الأرضية الأربعة، وعند تحللها وفنائها أخيرا كنفس نامية نباتية ستعود وتتحلل لما منه صدرت، أي ستعود لتتحلل لطبائع أربعة وتمتزج بتلك الطبائع الأربعة أو بتلك القوى الأربعة

    2-      جميع النفوس الحسية الحيوانية مصدر انبعاثها من القوى الفلكية أي أن مصدرها من السماء، فبدء انبعاثها وتكونها يكون من القوى الفلكية، وهذه القوة أو هذه النفس لا تتحلل بل انها تعود لتمتزج بالقوة الفلكية التي صدرت منها في البدء بدون أن تتحلل لعناصر مختلفة، فهي كما صدرت من الفوة الفلكية ستعود إليها مرة أخرى وتمتزج بها

    3-      جميع النفوس الناطقة القدسية هي عبارة عن قوىً لاهوتية، فلا هي من قوىً أرضية ولا هي من قوىً فلكية، وسنرى بعد قليل أنها تتفق بهذه الصفة الـ لاهوتية مع النفس اللاهوتية الملكوتية الكلية، فالنفس اللاهوتية الملكوتية الكلية هي أيضا قوة لاهوتية مثلها ولكنها جوهرة بسيطة، ومعنى صفة جوهرة بسيطة هنا له علاقة بمعنى صفة “الكلّيّة”

    4-      جميع النفوس الناطقة القدسية متصلة ببحر العلوم الحقيقية الدينية فمقرها جميعها هو العلوم الحقيقية الدينية، تستطيع أن تقول أنها نقاط حية تطفوا على بحر العلوم الحقيقية الدينية

    5-      جميعها تتشابه بأن موادها جميعها هي التأييدات العقلية،

    6-      وأن فعلها جميعها هو المعارف الربانية،

    7-      النفوس الناطقة القدسية لا تتحلل أو تفنى ولكنها تفارق وترجع وتجاور

    8-      وأن سبب فراقها جميعها للنفسين الأخرتين هو تحللهما، أي تحلل النفس النامية النباتية والحسية الحيوانية التي ترتبط مع كل نفس ناطقة قدسية، فهما بمثابة آلألات الجسمانية لكل نفس ناطقة قدسية، فاذا تحللتا وفنيتا قع الفراق حينها

    9-      ان النفس الناطقة القدسية لن تفقد هويتها ووجودها بالرجوع، بل ستحتفظ بهويتها وبوجودها ووعيها كاملا بنفسها كنفس ناطقة قدسية، وبتعبير آخر فإن النفس الناطقة القدسية لا ولن تموت أبدا،

    10-    مع افتراض أن النفس الناطقة القدسية قد تختار مرة أخرى وأخرى وأخرى أن تعيش حيوان أُخر وقصص أُخر، فإنها ستزداد مع كل تجربة جديدة تقرر أن تخوضها معرفة وعلما وتجاربا وخبرة، مهما كانت صفة تلك التجربة الجديدة، سواء كانت جميلة ومريحة أم كانت مروعة ومؤلمة، فإنها ستزداد بها ومن خلالها معرفة للخلق وللعوالم التي خلقها الله وكتب جميع تفاصيل بدئها ومنتهاها منذ البدء

    11-    أن الذي عادت النفس الناطقة القدسية لمجاورته له سلطة وقدرة عليها ولا بد أن تكون خاضعة له في تدبيره لأمورها في تلك التجربة أو جميع التجارب التي مرت وستمر بها وتختبرها واحدة بعد الأخرى

    ونأتي الأن للنفس اللاهوتية الملكوتية الكلية ونحاول أن نتدبر بعض شؤنها

    فبعد أن انتهى أمير المؤمنين من تبيان شؤون النفس الناطقة القدسية توجه الاعرابي له يستفسر عن النفس الناطقة القدسية، ويبدو أن هذا الاعرابي كان له ايمان مطلق بأمير المؤمنين صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه وآلهما، فهذه الاجوبة لو سمعها من في قلبه شك بإمامته وولايته الربانية لما صبر على الاستماع أكثر من ذلك ولقال ان الرجل فقد عقله كما فعل ذلك الكثير من الناس ولكنه كان يستمع بانتباه وبكل حواسه وكان يطلب المزيد كلما توقف الأمير عن الحديث،

    فالامير كان يعرف أن الموضوع شائك فلم يكن يسترسل لذلك بالشرح بلا توقف، بل كان يعطي ذلك الأعرابي السائل تماما على قدر سؤاله وبالضبط، فإن كان السائل لا يزال مهتما فسيطلب المزيد بالتأكيد، وهذا ما كان الأعرابي فعلا يفعله، فلذلك فإن أقل ما يمكننا أن نصف به هذا الأعرابي بانه مؤمن بالأمير أشد الايمان، وعنده ثقة مطلقة بأن الأمير هو باب من أبواب الغيب وبأنه باب مدينة العلم، وأن له عقل وقلب مؤمن بالغيب

    المهم أن الأعرابي سأل عن النفس اللاهوتية الملكوتية الكلية فقال الأمير إنها قوة لاهوتية، أي أنه عرّف النفس اللاهوتية الملكوتية الكلّيّة بأنها قوة لاهوتية،

    ويمكننا بذلك أن نعرّف أي مفهوم من تلك المفاهيم الأربعة على انفراد بمفهوم “قوة لاهوتية” على انفراد أيضا

    فنعرف النفس بأنها قوة لاهوتية،
    واللاهوتية بأنها قوة لاهوتية،
    و الملكوتية بأنها قوة لاهوتية،
    و الكلية بأنها قوة لاهوتية،

    فكل ما هو نفس هو قوة لاهوتية،
    وكل ما هو كلّيّ هو قوة لاهوتية،
    وكل ما هو ملكوتي هو قوة لاهوتية،
    وكل ما هو لاهوتي هو كذلك قوة لاهوتية

    واستمر الأمير قائلا أن هذه النفس اللاهوتية الملكوتية الكلية حية بالذات، أي أنها لا تستمد الحياة من غيرها أو من خارج ذاتها، فروحها التي تكتسب حياتها منها هي جزء أصيل منها لا يمكن أن ينفصل عنها أبدا،

    فروحها هي الحي بذاته والذي يعطي الحياة لكل حي، أي لبقية أجزائها وأجزاء أجزائها، فهي تعطي الحياة لكل من يشعر أنه حي، أما الجزء الثاني فهو العلوم الحقيقية الدينية، فكل العلوم الحقيقية الدينية التي تنهل النفوس الناطقة القدسية منها هي جزء لا يتجزء من هذه النفس اللاهوتية الملكوتية الكلية، فالجزء الأول هو الحي والجزء الثاني منها هو العليم والجزء الثالث هو القدير،

    فقدرة هذه النفس اللاهوتية الملكوتية الكلية لا تضاهيها أي قدرة يمكن أن نتخيلها لأي نفس ناطقة قدسية فجميعها تستمد قدرتها كاملة من هذه النفس اللاهوتية الملكوتية الكلية

    وأصل هذه النفس اللاهوتية الملكوتية الكلية بكل أجزائها هو العقل،
    ومنه بدت تعني أن ظهورها كان منه،
    وعنه دعت تعني أنها لسانه الذي يدعوا به
    وإليه دلت وأشارت بمعنى أن مهمتها هي التعريف بالعقل ودلالة كل الموجودات أو النفوس الجزئية الناطقة القدسية التي تتقوم بها والتي هي منها بدأت وإليها ستعود بالكمال

    أمّا قوله عليه السلام فهو ذات الله العليا، فيعني به أنه الظرف الجامع للأسماء الثلاثة الحي والعليم والقدير، وجمعه لها ثلاثتها ((أي الأسماء الثلاثة)) في وجوده يعني أنه أعظم منها ثلاثتها مجتمعة ومنفردة فهو الإسم الأعظم، فهو لذلك هو ذات الله العليا وشجرة طوبى وسدرة المنتهى وجنة المأوى، من عرفها لم يشق، ومن جهلها ضل سعيه وغوى .

    أما العقل فكما قال أن النفس اللاهوتية الملكوتية الكلية جوهرة بسيطة، قال أن العقل جوهر درّاك، ويبدو واضحا أن الجوهر الدّرّاك أشرف منزلة وأعلى شأنا من الجوهرة البسيطة وهذا يتضح لنا عندما نعرف أن اسم المحيط هو من شؤونات العقل، فهو محيط بجميع الأشياء من جميع جهاتها،

    وهو نفسه الذي أوجد كل شيء، فهو عارف بها قبل أن تنوجد، ولولا معرفته بها لما انوجدت أساسا، فعلة وجودها هي معرفته بها، فلولا معرفته بها ووجودها في علمه لما أمكن لها أن تنوجد، فما ليس من علمه لا وجود له، فعدمه في علمه يعني عدمه في الوجود،

    فهو الكتاب التكويني كله، ففقط الحروف والكلمات التي لها حظ من الوجود في صفحاته سيكون لها حظ في الوجود والتكوين، فهو الكتاب التكويني، وحروفه وكلماته هي التكوين كله بزمانه ومكانه،

    وما بعده لا يوجد من مطالب، فهو نهاية المطالب كلها ولا يمكن تعقل أي شيء بعده، بل لا يوجد بعده من بعد

    ونلاحظ أنه سلام الله عليه لم يعرّف العقل على أنه قوة لاهوتية أو بأي تعريف آخر، فمنه لا يوجد ما هو أكبر منه لكي يتم الإشارة به له،
    وله لا يوجد مصدر ليتم الاشارة به له،
    وقوته لا يوجد لها مصدر لتنسب له،
    فلا ينفع مع مخلوق ليس أكبر ولا أقدر منه بشيء، ولا فوق قوته قوة أن يشار اليه بشيء هو أقل منه شأنا وأقل منه قدرة وقوة،
    فكيف للأدنى منزلة أن يعرّف العلي الأعلى؟
    فهو لذلك لا يمكن الاستدلال عليه الا به، فهو يدل بذاته على ذاته

    فلا أقل إذن من أن يقال أن العقل هو القوة اللاهوتية التي خلق بها “الله المعنى المعبود” كل شيء، أو أنه هو المشيئة التي خلقها “الله المعنى المعبود” بذاتها، ومنها خلق جميع الأشياء، وأولها خلق النفس اللاهوتية الملكوتية الكلية،
    أو أن العقل هو الله الإسم الذي لا تجوز عبادته من دون المعنى فيكون الكفر، او عبادته معه فيكون الشرك، بل يلزم منّا ويجب علينا أن نتخذ من هذا الإسم أو من هذا العقل وسيلة لعبادة المعنى الذي أوجده، وذلك إمتثالا لما جاء أثره من الأمر عن أهل بيت العصمة سلام الله عليهم أجمعين فـ :

    عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن الحسن بن محبوب، عن ابن رئاب وعن غير واحد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من عبد الله بالتوهم فقد كفر، ومن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر، ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك، ومن عبد المعنى بإيقاع الأسماء عليه بصفاته التي وصف بها نفسه فعقد عليه قلبه ونطق به لسانه في سرائره وعلانيته فاولئك أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) حقا وفي حديث آخر: أولئك هم المؤمنون حقا.

    سنكتفي بما استخرجناه من المعاني حتى الآن من هذه الرواية الشريفة، وننطلق للقرآن الكريم الصامت ونحاول أن نستخرج منه ما يؤيد به القرآن الناطق ويبين لنا ما كان القرآن الناطق يحاول أن يفصله ويشرحه ويبينه من معاني القرآن الصامت

    وقلنا أن الإنسان يتكون من ثلاثة أنفس مركبة تكوّن بمجموعها شخصية إنسان، أيّ إنسان لا على التحديد، فعند الحديث عن الانسان بشكل مجمل يكون الحديث عنها ثلاثتها، ولكن عند الحديث عن خاصية معينة فيه فلا بد أن يكون الحديث عن أحد تلك الانفس الثلاثة وأحيانا يكون الحديث عن إحدى قواها

    وسنبدء البحث في النفس النامية النباتية، وقد قلنا ان أصلها هو من الأرض وهي تنمو وتكبر وتشيخ وتموت وتفارق وتتحلل، تماما كما النباتات وأنها أول جزء يتكون وهي تبني مقرها في النفس النباتية وهو الكبد ولكن قبله تبني مقر النفس الحيوانية وهو القلب، فأين نجد هذا المعنى في القرأن الكريم؟ وأقصد هنا معنى البداية

    بألفاظ صريحة وبهذا المعنى تحديدا سنجدها في الآية الكريمة من سورة السجدة – آية 7
    الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ

    ونجدها تشير للبداية ولمراحل النمو في عدة آيات، منها:
    1-              هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ – سورة غافر – آية 67
    2-              وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ – سورة فاطر – آية 11
    3-              وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ () ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ () ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ () ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ – سورة المؤمنون – آية12-15
    4-              يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ- سورة الحج– آية5
    5-              قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا – سورة الكهف-آية37
    6-              وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ — سورة الروم — آية 20
    7-              سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونً — يّـس:36
    وهذه الآية الكريمة تبين لنا تلك المصادر التي خلق الله منها جميع الأزواج،

    فقال أن الجزء الأول هو من الأرض ((النفس النامية النباتية))

    والجزء الثاني ((الحسية الحيوانية)) هو من أنفسهم، ومن أنفسهم هنا قد يفهم منها أن الضمير بها يعود على النفس الناطقة القدسية، بمعنى ان النفس الحسية الحيوانية تفرعت من النفس الناطقة القدسية وأصبحت إمتدادا لها

    وقد يفهم هنا أيضا أن الضمير في لفظ أنفسهم يعود للمجموعة الفاعلة، والذين هم من نفوسهم في النفوس، أي أن الضمير هنا يعود الى النفوس العليا الثلاثينية الإثنا عشر، والتي هي مظاهر، أو انها تنسب نسبا حقيقيا لنفوسها العليا الثلاثة الرباعية، فهي متفرعة منها كما تتفرع الاصابع من اليد، فالاصابع هي أصابع اليد، فهي تنسب لليد، واليدان تنسبان للجذع وووووو

    وتوجد آيات أخرى لم نوردها الآن وسنوردها لآحقا لأنها تصف النفس الانسانية الحسية الحيوانية كما سيتبين، وأوردنا هذه فقط لأنها تصف البداية وتطور البداية فقط، وبدون أن تصف أي شأن آخر، فهي بدأت بالتراب ثم كانت تنتقل بوصف مراحل التطور واحدة بعد الأخرى، بمعنى آخر كانت تصف النفس الانسانية النامية النباتية

    أما النفس الانسانية الحسية الحيوانية فمن صفاتها أنها تفارق وتعود لتتمازج مع منه بدت وتفنى شخصيتها، وفعلها الحياة والحركة والظلم والغشم والغلبة واكتساب الاموال والشهوات الدنيوية، وبلفظ آخر فإنها منطلق جميع الخصومات والظلم والاختلافات الدنيوية، وهذه نجدها في آيات أخرى تتكلم عن الخصام والاختلافات والظلم والغشم والشهوات عند الإنسان وهي اجمالا تأمر بفعل السيئات، وهذه بعضها:

    1-               أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ- سورة يس36 – آية 77
    2-              إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا () إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا () إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالا وَسَعِيرًا — سورة الإنسان – آية 2-3-4
    3-              فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى () وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى () ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى () أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى () ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى () أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ()أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى– سورة القيامة-آية31-37
    4-              قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ () مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ () مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ — سورة عبس – آية17-18-19
    5-              وَمَا أُبَرِّىُ نَفْسِي إِنّ‏َ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوء إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنّ‏َ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ – سورة يوسف

    كما أنه يوجد 25 مورد للفظ “نفس” في القرآن الكريم وجميعها في معرض بيان أن لها نوع من الظلم والحساب العسير ما لم يكن هناك من ينهاها عن اتباع الهوى

    أما النفس الانسانية الناطقة القدسية فهي لا تموت ولا تفنى بل ترجع وتجاور وفعلها المعارف الربانية، ومقرها العلوم الحقيقية الدينية، وموادها التأييدات العقلية، فكل الصفات الحسنة والجميلة إذن هي من نصيبها

    1-              يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ () ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً () فَادْخُلِي فِي عِبَادِي () وَادْخُلِي جَنَّتِي — سورة الفجر – آية 27- 30

    2-              وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى () فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى — سورة النازعات- آية 40-41 ((يوجد جزء آمر وجزء مأمور ويوجد جزاء هنا، وهي الجزء الآمر وهي التي سترجع الى ربها راضية مرضية جزاءا لفعله الحسن))

    أمّا النفس اللاهوتية الملكوتية الكلية فصفتها التي سنجد القرآن الكريم قد أشار إليها هي أنها النفس التي منها بدأت جميع الموجودات
    وهذا المعنى نجده في الآيات التالية وغيرها:

    1-  ((خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)) سورة الزمر — آية 6

    2-  ((وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ)) سورة الأنعام — آية 98

    3-  ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)) سورة الأعراف — آية 189

    4-  ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)) سورة النساء-آية1

    أمّا العقل فحيث أن جميع المخلوقات، وأولها النفس اللاهوتية الملكوتية الكلية تعلم أنها معلولة في وجودها للعقل الإسم المخلوق فلسان حالها جميعها بلا استثناء ينطق ويقول:

    1- ((الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)) سورة البقرة — آية 156

    ولكن الرجوع لله لا يكون بمرتبة واحدة ومرحلة واحدة بل على مراحل ومراتب عديدة، فمرة النفس النامية النباتية تعود لأمها الأرض

    وأخرى تعود قوة النفس الحسية الحيوانية الفلكية لتمتزج مع قوة النفس الناطقة القدسية اللاهوتية فتفنى هويتها بها،

    ومرة أخرى تعود النفس الناطقة القدسية لتجاور نفسها العليا وتحتفظ معها بهويتها فلا تفنى

    والآن سنعود لتدبر بعض شؤونات النفوس النامية النباتية والحسية الحيوانية والناطقة القدسية والكلية الالهية ولكن من كلمات رواية أخرى تتكلم عن نفس الموضوع لكن بتفصيل أكثر
    فقد جاء :

    عن كميل بن زياد قال : سألت مولانا أمير المؤمنين عليه السلام فقلت : يا أمير المؤمنين ، أريد
    أن تعرفني نفسي ؟

    قال : ( يا كميل أي الأنفس تريد أن أعرفك ) .

    قلت : يا مولاي هل هي إلا نفس واحدة ؟ !

    قال عليه السلام : ( يا كميل إنما هي أربعة : النباتية النامية ، والحسية الحيوانية ،
    والناطقة القدسية ، والكلية الإلهية ، ولكل من هذه خمس قوى وخاصيتان :

    فالنامية النباتية لها خمس قوى : جاذبة وماسكة وهاضمة ودافعة ومربية ، ولها خاصيتان :
    الزيادة والنقصان ، وانبعاثها من الكبد .

    والحسية الحيوانية لها خمس قوى : سمع وبصر وذوق ولمس وشم ، ولها خاصيتان :
    الرضا والغضب ، وانبعاثها من القلب .

    والناطقة القدسية لها خمس قوى : فكر وذكر وعلم وحلم ونباهة ، وليس لها انبعاث ،
    وهي أشبه الأشياء بالنفوس القدسية الملكية ولها خاصيتان : النزاهة والحكمة .

    والكلية الإلهية لها خمس قوى : بقاء في فناء ، ونعيم في شقاء ، وعز في ذل ، وفقر في
    غناء ، وصبر في بلاء ، ولها خاصيتان : الرضا والتسليم وهذه التي مبادئها من الله وإليه تعود ،

    قال الله تعالى : ( ونفخت فيه من روحي ) وقال تعالى : ( يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي
    إلى ربك راضية مرضية

    ( والعقل وسط الكل )
    .إنتهى

    من هذه الرواية الشريفة يتبين لنا أن قوى الانسان موزعة على الأربعة أو على الثلاثة أنفس بالتساوي،

    فكل نفس منها لها خمس قوى وخاصيتان

    وإذا أردنا أن نعرف أي نفس هي تلك المقصودة بالكلام المعصوم يجب أن نحدد عن أي خاصية أو عن أي قوة كان المعصوم يتكلم،

    فإن تبين لنا أن الحديث كان عن قوة جاذبة أو ماسكة أو هاضمة أو دافعة أو مربية أو كان الحديث عن زيادة ونقصان فلا بد أن قصد المعصوم كان حينها عن النفس النامية النباتية

    وإن كان الحديث عن قوة السمع أو البصر أو الذوق أو اللمس أو الشم أو عن الرضى او الغضب فستكون النفس الحسية الحيوانية هي التي كان المعصوم يتحدث عنها

    وإن كان الحديث عن قوى الفكر أو الذكر أو العلم أو الحلم أو النباهة أو عن النزاهة والحكمة فان حديث المعصوم كان حينها وبلا ريب عن النفس الناطقة القدسية

    ونظرة سريعة على تلك القوى تنبأنا أن القوى العقلية والفكرية كلها منحصرة في النفس الناطقة القدسية

    فالقوى العقلية وأقصد قوى الفكر والذكر والعلم والحلم والنباهة وخاصتي النزاهة والحكمة العقليتين كلها من نصيب النفس الناطقة القدسية،

    فكل آية أو رواية يكون الحديث بها عن إحدى تلك القوى الانسانية سيكون المقصود بها هي النفس الناطقة القدسية

    ونفس هذه النظرة السريعة على قوى وخواص النفس الحسية الحيوانية ستنبأنا أنها تتكلم عن حواس وغرائز فقط ويستطيع الانسان بها بمعزل عن العقل أن يعيش ويتكاثر ويدافع عن نفسه،

    أمّا قوى النفس النامية النباتية الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والمربية وخاصتيها الزيادة والنقصان فتبين لنا الوضيفة الحقيقية للمخ الموجود داخل جمجمة الرأس، فهذا المخ حيث أنه يزيد وينقص وينمو ويضمر فإنه يُعتبر جزء من النفس النامية النباتية ولا علاقة له بالعقل والتعقل فهذه حصرا من قوى النفس الناطقة القدسية وخواصها

    وأكثر ما يمكننا أن نقوله في المخ أنه هو من يستقبل تلك الإشارات أو تلك التأييدات العقلية التي تأتيه كإشارات من طرف النفس الناطقة القدسية والتي تستقيها أو تنتقيها من بحر العلوم الحقيقية الدينية ثم تبثها كإشارات أو كتأيدات عقلية يستقبلها المخ، وتلعب الغدة الصنوبرية المتمركزة في وسط العقل دور البطولة في هذه المهمة هي والهوائيات الثمانية المحيطة بعقل الإنسان وتتقاطع جميعها معها ((مع الغدة الصنوبرية)) في وسط العقل،وتقوم الغدة الصنوبرية بدورها بعد استقبال تلك الإشارات من خلال الهوائيات الثمانية المتصلة بها بتوزيعها لأجزاء المخ وكل حسب حسب اختصاصه فتترجمها الى أحاسيس وصور عقلية تستقبلها قوى النفس الحسية الحيوانية فتتحسسها وتعيشها النفس الحسية الحيوانية كتجربة مادية تسمع وتبصر وتتذوق وتلمس وتشم بها، فتشعر معها أنها تعيش في عالم مادي تذهب وتجيئ به وتغضب وترضى به إثر تحسسها لتلك الأحاسيس التي تصلها من خلال المخ والذي استقبلها سابقا على شكل تأيدات عقلية قادمة من النفس الناطقة القدسية والتي اختارتها لنفسها من بحر العلوم الحقيقية الدينية، والتي هي مسطورة في الكتاب التكويني الذي كتب الله به منذ البدء ما كان وما يكون الى انقضاء الساعة فــ:

    مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ

    فهذا هو الكتاب التكويني الذي أوجده الله منذ البدء، أوجده كاملا لا نهاية له، وبه أوجد جميع الاحتمالات التكوينية الغير محدودة كاملة، وهي العلوم الحقيقية الدينية

    هذا هو الكتاب التكويني الذي تنهل منه النفوس العليا الأربعة والإثني عشر والنفوس الناطقة القدسية مرة بعد أخرى تلك العلوم الحقيقية الدينية لتتذوقها حضوريا جهة بعد جهة، واحتمالا بعد احتمال، فهي تتحصل في كل مرة على احتمال من تلك الإحتمالات التكوينية من الكتاب كعلم حصولي، ومن خلال الأنفس النامية النباتية والحسية الحيوانية والناطقة القدسية تجعلها أو تحولها الى علوم حضورية فتستشعرها النفس العليا للعائلة الثلاثينية من خلالهم، وتستشعرها معها وبنفس الوقت النفس الكلية الإلهية ،

    وبهذا فإن النفس الكلية الالهية تعيش وتستشعر في لحظة واحدة خالدة الى الابد جميع المشاعر الممكنة وجميع الاحتمالات الممكنة وجميع الصور الممكنة من البدء وحتى انقضاء الساعة

    فالله المعنى المعبود الذي سَبَقَ الْأوْقاتَ كَوْنهُ، وَالْعَدَمَ وُجُودُهُ، وَالاِبْتِداءَ ازَلُهُ أحب أن يَعْرِفَ نفسه فشاء أن يَعْرِفَ نفسه فأراد أن يَعْرِفَ نفسه فخلق الكتاب التكويني نور السماوات والأرض كاملا غير منقوص لا نهاية له وبه جميع الاحتمالات الممكنة، فعرف نفسه بنوره حضوريا، لا بزمان ولا بمكان ولا بشيء قد يحتاج له بأي من الصور الممكنة وبجميع الاحتمالات الـ لا نهائية الممكنة

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    وصلى الله على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين

  • The forum ‘بحوث طالب التوحيد’ is closed to new topics and replies.