بوارق وإشراقات في العرفان والتصوف -5-
(بين تجريد الإكسير من الكثير.. وتجرّد اللطيف عن الكثيف)
بقلم الفقير لله تعالى: أحمد يوسف نده
(طرطوس: الخميس 26-4-2018م)
……………………………………………..
التجريد والتجرُّد هما قدرةٌ منحها الله تعالى للإنسان في عقله ونفسه أثناء سلوكه العلمي والعملي.. وهي ليست مختصة بإنسان دون آخر.. بل تعم أبناء البشر وتميزه عن سائر الكائنات الأرضية..
إلا أن هذه القدرة تتفاوت بين الإنسان العادي وبين الإنسان العالم وبين الإنسان الصوفي.. وهي تظهر في أوج كمالها عند العارف السالك في مقام العرفان والتصوف.. وهو ما يهمنا في هذه الأبحاث المختصة بهذا العلم الشريف..
.
1- (تجريد الإكسير من الكثير):
…………………………………
هو قدرة العقل الإنساني الذي ينظر إلى المحسوسات والظواهر من حوله.. فيجردها من جزئياتها أو من قشورها أو من عوارضها.. لينتقل إلى القوانين الحاكمة لها أو كلياتها أو ذاتياتها..
هذا في مقام العقل النظري والفلسفة الماورائية والعقائد والمعارف الدينية..
أما في مقام العقل العملي.. فهو استخلاص الحكمة من خلال الظواهر الكونية.. واستخلاص الروح المتجلية في عالم الأكوان والتي هي علة نظامها وحياتها وجمالها.. وهو أشبه ما يكون بفعل النحل الذي يسير بين الأزهار المختلفة.. فسيتخلص رحيقها ليصنع منه عسلاً شافياً.. أو طبيب الأعشاب الذي يستخلص من النباتات والأعشاب والتفاعلات الكيميائية والعناصر الطبيعية ترياقاً فيه الشفاء والدواء..
.
كذلك العارف الحكيم يستخلص الحكمة العملية مما يشاهده في حياته.. فنظرته إلى الطبيعة ليست نظرة عابرة سطحية ساذجة.. بل نظرته إليها نظرة العارف الخبير.. نظرة المتأمل الحكيم.. لا يرى الموجودات بلحاظ ذاتها وكثرتها.. بل ينظر إليها بلحاظ حكمة خالقها.. بلحاظ الغاية التي خُلقت من أجلها.. أي بلحاظ كونها سيمفونية موسيقية متناغمة.. بلحاظ كونها كلمات وأحرف وجودية.. حيث يعمل على تركيبها ليفك بها شيفرة الوجود.. وفهم كلام المعبود المسطور بأقلام الوجود بمداد من نون نور الملكوت في كتاب التكوين.. فيستخلص من كل حادثة إكسيراً يدفع به مرضاً معيناً ويرفع نقصاً معيباً.. وإن الله تعالى أكَّد على التفكر وأخذ العبر والتبصُّر في كتابه الكريم بقوله جل من قائل: ((فاعتبروا يا أولي الألباب)) ((إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار)) ((يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً))
.
2- (تجرُّد اللطيف عن الكثيف):
………………………………
وهو غاية ما يسعى إليه الحكيم.. وهو التجرد عن الكثرة المادية والكثافة الجسمانية للارتقاء إلى محل الأرواح الروحانية والنشأة الملكوتية… وهذا التجرد النفساني لا يتم إلا من خلال التعالي عن شهوات الدنيا والانغماس في حظيرتها.. وليس قصدنا بالتجرد عنها الانقطاع منها.. فذاك هو الموت الطبيعي.. بل قصدت التجرد عنها بمعنى الموت الاختياري.. فيحافظ على حبله السري المرتبط بمشيمة الدنيا بما يساعده على رعاية بدنه في رحم نشأتها.. فيأكل من حلالها ويبتعد عن حرامها.. ويجعلها كمزرعة يحصل بها ثواب الآخرة…
.
فإن خلا قلبه منها دون بدنه فقد سيطر عليها.. وتجرَّد من كثافتها وتخلَّص من حجبها.. فأزال عنه غيوم الأبخرة المنتشرة في سمائها وحطَّم أصنام كثرتها.. فعندها يتجلى له نور وحدة الحق وتشرق على نفسه شمس العشق.. فعندها يسمع بالله ويرى بالله..
.
وهناك مقام آخر للتجرُّد.. ألا وهو التجرد العقلي.. تجرد العقل النظري.. أي الارتقاء في الحكمة الفلسفية والمقامات العرفانية والمعارف التوحيدية حتى يخرج عقله من قوة (العقل الهيولاني) إلى فعلية (العقل بالفعل).. ويستمر على ذلك حتى يصل إلى غايته كـ (عقل مستفاد)… فعندها يأخذ الفيض مباشرة من (العقل الفعال) المدبر لعالم الكون والفساد.. بأمر رب العباد.. فهناك يجد ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر..
.
ومن هنا نفهم قول الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم (موتوا قبل أن تموتوا).. أي تجردوا بالاختيار قبل أن تتجردوا بالإكراه والاضطرار عن طريق الموت الذي سيجردكم من دنياكم التي ألفتموها وآنستموها وأخلدتم إليها وركنتم إلى ملذاتها وانغمستم في شهواتها.. فإن السعادة الحقة الحقيقية والنعمة الدائمة السرمدية.. لا تكون إلا في رحاب العقل والوحي والنور والملكوت بين يدي الحي الذي لا يفنى ولا يموت..
.
رزقنا الله وإياكم من رحمة سماء العقل ماءً.. ومن نور شمس الوحي شعاعاً.. لتحيا بها أرواحنا وتضيء في (خضرة) الملكوت.. وتسبّح وتقدّس وتهلّل وتكبّر في (حضرة) ذي العزة والجلال والكمال والجبروت..
………………………………….