بوارق وإشراقات في العرفان والتصوف3
(بين فناء التوحيد والفناء في التوحيد)
بقلم الغني بالله تعالى: أحمد يوسف نده
(طرطوس: الخميس 5-4-2018م)
……………………………………………..
(فناء التوحيد وانتفاؤه): بمعنى إبطاله واضمحلاله.. ويرجع ذلك إلى كل ما يشوب (التوحيد) من شبهات باطلة تحبط العمل وتُوقع الإنسان في حبال الشرك الخفي.. وهذا يرجع إلى عدة أمور: منها ما هو خفي ومنها ما هو أخفى.. أما الخفي كالحلول والاتحاد فقد أثبتنا بطلانهما سابقا.. وبقي علينا أن نشير إلى أمرين أخفى منهما.. وهما (التشبيه والتعطيل):
.
1- (التشبيه): وهو قياس الخالق بالمخلوق.. وإثبات صفات النقص والحد الملازمة للممكن على الواجب المتعالي عن صفات خلقه.. وهذا مآله بلغة الرياضيات إلى (إيجاب السلب).. وهو إثبات النقص على الحق جل جلاله.. وهذا ما ينفيه قوله تعالى ((ليس كمثله شيء وهو السميع البصير))..
.
2- (التعطيل): وهو قياس المخلوق بالخالق.. فيظن أن كل الصفات راجعة إلى الخلق.. فيغالي في تنزيه الواجب حتى يجرّده عن كمالاته فيقع في حد التعطيل.. وهذا مرجعه إلى (سلب الإيجاب).. أي نفي كمالات الواجب وإرجاعها إلى المخلوق.. وهذا ما يبطله قوله تعالى ((وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم))..
.
ولا يخفى على كل ذي لبّ أن (إيجاب السلب) و(سلب الإيجاب) مرجعهما في المنطق الرياضي إلى (السلب).. أي النقص.. وهذا هو التقهقر في العلم والخروج عن جادة التوحيد.. وهو ما سميناه بـ (فناء التوحيد وانتفاؤه)..
.
وأما التوحيد الحق فلا يكون إلا (بسلب السلب): أي بنفي النقص عن البريء من النقص.. أو (إيجاب الإيجاب): وهو إثبات الكمال للحق المتعال.. وكلاهما مرجعهما رياضياً إلى (الإيجاب).. المتمثل في الارتقاء في معراج المعارف الإلهية.. والتحقق في هذه المرتبة والإخلاص لها.. وهو ما يعرف باصطلاح العرفاء بـ (الفناء في التوحيد):
وهو التوحيد العرفاني الذي جاء في كتاب الله المبين وسنَّة الصادق الأمين ونهج أمير الموحدين وهدي العترة الطاهرين.. فهو التحقق والارتقاء في توحيد الذات والصفات والأفعال.. وسنشير إلى تلك المراتب من باب الإشارة والتنبيه:
.
أما (توحيد الذات) فهو على مراتب:
.
1- (توحيد الذات بإثبات الوحدة ونفي الشريك): وهو القول بـ (الوحدة الحقة الحقيقة) اللامتناهية واللامحدودة.. والمانعة عن وجود التعدد والشركة في الواجب.. وهو مقام الأحدية المشار إليه بقوله تعالى: ((الله أحد))..
.
2- (توحيد الذات بإثبات البساطة ونفي التركيب): وهو القول بالبساطة الصرفة التي لا أجزاء فيها ولا جوف لها ولا انقسام في ذاتها.. والتي يُعبَّر عنها بالصمدية المشار إليها بقوله تعالى: ((الله الصمد))..
.
3- (توحيد الذات بإثبات الدوام والبقاء ونفي الانتهاء): وهو القول بالديمومة العظمى وتنزيه الحق عن الحاجة للغير في الاستمرارية.. كحاجة المخلوقين للأولاد لاستمرار النوع والجنس.. فهو سبحانه مجنّس الأجناس فلا جنس له ولا نوع.. وهذا هو مقام الأبدية السرمدية التي لا تحتاج لولد يحفظ وجودها.. وهو المشار إليه بقوله تعالى ((لم يلد))..
.
4- (توحيد الذات بإثبات القدم ونفي الابتداء من العدم): وهو القول بالغنى الذاتي وتنزيه الباري عن الاحتياج لعلة يفتقر إليها في وجوده.. بل هو سبحانه معل العلل ومسبب الأسباب.. وهو واجب الوجود بذاته ووجوده عين ذاته.. .. وهذا هو مقام الأزلية الغير مسبوقة بعدم.. والمشار إليها في قوله تعالى ((ولم يُولد))..
.
5- (توحيد الذات بإثبات الفردانية ونفي المماثلة والزوجية): وهو القول بالتفرُّد وتنزيه المولى عن الضد والشبيه والنظير والمثل والعديل.. وهو مقام الفردية المشار إليها في قوله تعالى ((ولم له كفواً أحد))..
.
– فإن تحقَّقت بمقام (التفصيل) في توحيد الذات.. ارتقيت إلى مقام (الإجمال) في توحيد الهوية الغيبية بمعرفة مقام الـ (هو).. والمشار إليها في قوله تعالى ((قل -هو-)).. وهذا هو مقام (الإخلاص في التوحيد)..
.
– ومن توحيد الـ (هو) تنتقل إلى (توحيد الألوهية) المشار إليه في قوله تعالى ((-الله- لا إله إلا -هو-))..
– (لتكمل) توحيدك الذاتي بـ (التوحيد الصفاتي) بمعرفة (الصفات الذاتية) التي هي (عين الذات).. كالعلم والقدرة والوجود والإرادة والنور التي مرجعها للحياة.. والمشار إليها في قوله تعالى (الحي) أي الجامع لصفات الذات الواحدية..
– و(لتتم) توحيدك الصفاتي بـ (التوحيد الأفعالي) بمعرفة (الصفات الفعلية) الزائدة على الذات.. كالخلق والرزق والقبض والبسط والمغفرة والانتقام والإحياء والإماتة التي بها قوام الخلق وتقوّمهم بالقائم بذاته.. وهو المشار إليه في قوله تعالى (القيوم) الجامع لصفات الأفعال الوحدانية..
وبهذا تكون قد تحققت من آيات سورة الإخلاص واستهلال آية الكرسي ((الله لا إله إلا هو -الحي القيوم-))..
.
فإن تمَّ لك ذلك انتقلت من توحيد غيب الهوية في حضرة (الهو).. إلى غيبتك عن نفسك وفنائك في حضور (نون العظمة).. لتتحقق من قوله تعالى: ((إني -أنا- الله لا إله إلا -أنا- فاعبدني وأقم الصلاة لذكري)).. وهذا هو مقام (الفناء في التوحيد)..
.
فإذا صحوت بعد السكر وبقيت بعد الفناء.. شعَّت في نفسك فطرة التوحيد.. فتوجَّهت لمن فطرك على التوحيد لقوله تعالى: ((إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين))..
فقمت للعبادة والذكر واستفتحت صلاتك وصلتك بفاتحة الوجود.. حامداً الرب المعبود: ((بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين))..
عارفاً بصفات الجلال والجمال والكمال: ((الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين))..
متصلاً بحضرة الشهود ومخاطباً إياه بكاف الخطاب المشهود ((إياك نعبد وإياك نستعين))..
مستعيذاً به من ضلالات المشبهين والمعطلين.. ومن شطحات أهل الاتحاد والحلوليين.. ومتمسكاً بصراط الموحدين: ((اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين))..
وبذلك تكون قد تحققت من مقام (توحيد الربوبية) بضمير المشاهدة (أنت) والمشار إليه في قوله تعالى: ((أن لا إله إلا -أنت- سبحانك إني كنت من الظالمين))..
فيتغمّد ك ربك بواسع رحمته ومغفرته.. وينجيك من ظلمات الشرك الخفي والهوى الردي.. قائلاً جل جلاله في محكم كتابه: ((فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين))..
فتسجد له سجدتين إقراراً منك أنه الإله في الدارين ((وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله)).. وتسلم له إسلام الأنبياء والمرسلين من إبراهيم الخليل إلى محمد الصادق الأمين ((ومن أحسن ديناً ممَّن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً))..
فتختم صلاتك بمعرفة خاتم الأنبياء والمرسلين والتمسك بهدي المهدي خاتم الأئمة والوصيين.. الذين أولهم محمد وآخرهم محمد.. لتبدأ بركن الزكاة وإنفاق العلم على المستحقين.. والصوم بالإمساك عن الجدال والخصام والنفاق والرياء في الدين.. ثم تحج إلى دار القدس.. بعد مجاهدة هوى النفس.. لتقدم قربانك بتقرُّبك إلى الله تعالى.. بملازمة الطاعات وترك المعصيات.. لتتحقق من مقام التقوى فتكون من المقبولين ((إنما يتقبل الله من المتقين)).. ثبتنا الله وإياكم على التوحيد الحق.. إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.. والحمد لله رب العالمين..
….
(ملاحظة): كلامنا السابق ليس من باب سرد ألفاظ شعرية أو تنميق خيالات وجدانية.. بل هي علوم شريفة قائمة على الدليل والبرهان.. والحجة والقرآن.. والسنة والعترة التي بهما تمام الميزان.. وذلك بما منَّ الله تعالى علينا من فضله الواسع.. عن طريق وسائط الفيض من أهل العصمة صلوات الله عليهم.. وبإرشاد وتعليم السادة الثقات من سلفنا الصالح.. قدس الله أسرارهم ونوَّر أشباحهم.. ونضَّر وجوههم ورزقنا رضاهم.. اللهم آمين..
…………………………