التعريف بعلم العرفان والتصوف – 14-
مقدمات توضيحية
(المقدمة الحادية عشر): الأسفار العملية الصوفية الأربعة
بقلم الفقير لله تعالى: أحمد يوسف نده
(دمشق: الخميس 15-2-2018م)
………………………………………..
بعد أن بيَّنا الأسفار النظرية التي يسلكها العارف في مراتب العلم الطولية.. سنبدأ بشرح الأسفار العملية الأربعة التي يسلكها الصوفي في مراتب العمل بهدف التقرب من الحق جل جلاله..
هذه الأسفار تتفرَّع عن حقيقة وأصل واحد.. بدونه لن يفلح السالك في سيره مهما حاول واجتهد… لأن هذا المصدر والأصل هو السبب في تزويد السالك بالعزيمة خلال تلك الأسفار الشاقة والطويلة..
هذا المصدر هو الحب.. والحب يتعلق بثلاثة أمور وعنها تتفرع الأسفار الأربعة.. فالحب يتعلق بالنفس وبالحق وبالخلق.. وتفصيله كما يلي:
.
1- السفر الأول: جهاد النفس
فالإنسان الذي يحب نفسه حباً إنسانياً ملكوتياً طاهراً راقياً.. فإنه يحب لها الكمال والارتقاء.. ويكره لها الخبائث والصفات المذمومة.. فإذا أدرك الإنسان ذلك.. نشأ في قلبه حب تحصيل الأخلاق الحميدة والكمالات المعنوية.. فيعمل على تهذيب نفسه وتخليتها من النقائص.. ثم تحليتها بالأمور الشريفة والصفات الحميدة والأخلاق العالية.. ملتزماً بذلك التعاليم القرآنية وإرشادات الأنبياء وسيرتهم الطاهرة وأعمالهم الصالحة..
وفي هذا السفر يسعى الإنسان للانتقال بين الأحوال والمنازل والمقامات.. ففي (الحال) يكتسب الخلق الحميد بالمجاهدة.. وفي (المنزل) يصبح الخلق الحميد ملكةً فيصدر عنه الفعل بيسر.. وفي (المقام) يتحقق بالخلق الحميد ويصبح هذا الإنسان مظهراً لهذا الخلق..
مثال على ذلك: الإنسان تارة يكتسب صفة الكرم بالمجاهدة فيقوم ببعض الأفعال التي تسمى بالعمل الكريم.. فيكون الكرم صفة فعله لا صفة لذات الفاعل.. وهذا ما يسمى بالحال.. ثم تصبح صفة الكرم عنده ملكة لا تزول بسهولة فيُقال عنه كريم.. فينزل في منزلة الكرم.. وأخرى يصبح هذا الإنسان عين الكرم والجود والعطاء والإيثار وهذا هو مقام الكرم..
.
2- السفر الثاني: سفر الأبرار
وهو السفر الناتج عن محبة الإنسان للحق جل جلاله.. فيسعى من خلال حبه لكسب رضاه وثوابه وعفوه وغفرانه.. وخوفاً من عقابه وغضبه وسخطه.. فيقوم بمجاهدة نفسه عن طريق القيام بالنوافل والمستحبات إضافة للفرائض والواجبات.. فيرتقي السالك في مقام التقرب إلى الله بالنوافل حتى يصل إلى مرحلة المحبوبية من الحق تعالى فيكون مصداقاً لقول الرسول الأكرم ص في الحديث القدسي عن الحق تعالى: (ما زال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه.. فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به.. وبصره الذي يبصر به.. ويده التي يبطش بها…).
.
3- السفر الثالث: سفر المقربين
وهو السفر الناتج عن محبة الإنسان للحق جل جلاله.. ليس طمعاً في رضاه وثوابه.. ولا خوفاً من عقابه.. ولكن حباً بالله لأنه أهل للحب والعبادة.. فلا يرى في الشريعة نوافل ومستحبات.. بل يراها كلها فرائض.. فتصبح الفريضة فرض والنافلة فرض.. فلا ينظر إلى الفرائض والواجبات على أنها تكاليف وعليه المجاهدة في القيام بها.. بل يراها تشريف.. ويرى في تأديتها راحة لنفسه وروحه.. فيصبح مصداقاً لما روي عن الرسول الأكرم ص عن الله تعالى في حديثه القدسي: (ما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالفرائض حتى أحبه.. فإذا أحببته أصبح سمعي الذي أسمع به.. وبصري الذي أبصر به.. ويدي التي أبطش بها)..
ومن هنا يتضح الفرق بين أهل هذا السفر وأهل السفر السابق.. فالصوفي السالك في السفر السابق يسمع بالله ويرى بالله.. بينما الصوفي المقرب السالك في هذا السفر يصبح عين الله ويد الله وظل الله في أرضه…
.
4- السفر الرابع: سفر أهل الدعوة والتبليغ
وهذا السفر ينتج من محبة الإنسان للخلق.. فيرجع إلى الخلق ليبلّغ دعوة الحق.. ليكون هادياً ومرشداً وداعياً إلى الحق ومبلغاً عنه جل جلاله.. وهذه مرتبة أهل الدعوة والتبليغ.. وعندها يكون المسافر ظلاً للأنبياء والرسل والأوصياء عليهم الصلاة والسلام..
.
ومن هنا يتضح أهمية هذه الأسفار لمن أراد أن يقوم بالدعوة إلى الله تعالى وتبليغ أحكامه.. فأهم أركان الدعوة هي العلم الناتج عن الأسفار النظرية.. والحب الدافع للأسفار العملية.. وبدونها تكون الدعوة ناقصة..
وما نشاهده اليوم في العالم الإسلامي من الكثير من الدعاة والمبلغين الذين ينفّرون من الدين أكثر من الترغيب به.. فكثير منهم غرقوا في الشهوات والشوائب.. وضعفوا أمام الأموال والمناصب.. فابتعدوا عن جادة الأنبياء ولم يسيروا بسيرة الأولياء.. فهذا ينتصر لمذهبه من غير وجه حق.. وذاك يدافع عن حاكمه الظالم.. وثالث يخاف على منصبه.. ورابع يخشى على رواتبه.. وآخر يدعو للتطرف.. وذاك يدعو إلى التفريط..
وللأسف أصبحت الدعوة الإسلامية عبارة عن كلية بأربع سنوات.. يحصّل طالب العلم شهادتها بحفظ بعض الكتب والكراسات.. وتقديم امتحانات على ورق وتسميعات.. بعيداً عن المجاهدة والأسفار التي تجعل من الإنسان متخلقاً بأخلاق الأنبياء والأوصياء..
.
وبعد كل ذلك نسأل ونتساءل عن الخلل في المجتمعات.. وعن السبب في تدهور الأجيال.. وعن العلة في ابتعاد الناس عن الدين والشريعة والأخلاق.. فالدعوة والتبليغ هي أمانة الله التي أشفقت منها الأرض والسموات.. وحملها الإنسان جاهلاً قدرها.. ظالماً لنفسه التي لم يروّضها كي تكون مستعدة لتأدية هذه الأمانة على وجهها.. فهي رسالة هداية وإرشاد وحب وكرامة من الحق إلى الخلق.. نسأل الله العفو والمغفرة والهداية والتوفيق لما فيه الخير لنا وللجميع..
.
ملاحظة: هناك أسئلة ثلاث قد تخطر في بال من يقرأ هذه المقدمات والمنشورات لا بد من الإجابة عليها.. والأسئلة هي:
1- أين الأنبياء والرسل من هذه الأسفار.. وهل يحتاجون لها؟
2- هل هناك دليل على وجود أسفار علمية وعملية؟
3- هل هناك تهافت بين هذا المنشور والمنشور رقم (7)؟؟
ففي ذاك المنشور – أي السابع- ذكرنا أنه ينبغي إدخال علم العرفان والتصوف في نطاق المؤسسات العلمية والتعليمية.. بينما في هذا المنشور تم نقد المؤسسات والجامعات مثل كلية الدعوة.. فكيف يستقيم هذا الأمر وهل يمكن إدخال هذه الأسفار في منظومة مؤسساتية؟
وسنحاول في المنشور القادم الإجابة عن هذه الأسئلة.. كي تكون الأمور واضحة وخالية من التهافت.. دمتم بخير والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته..
………………………………