مغـالطـات التائهين في علم التصوف – 3 –
(الإفـراط في السلوك الصوفي)
بقلم الفقير لله تعالى أحمد يوسف نده
طرطوس- الشيخ بدر: 9-11-2016
……………………………………………………..
قال الله تعالى: ((وكذلك جعلناكم أمة وسطاً)).. فالوسطية بين الإفراط والتفريط هي الصفة التي يجب أن تتحلى بها الأمة التي تريد حمل راية الإسلام.. ومن الطبيعي أنه في أي سلوك علمي وعملي قد تحصل زوائد يجب قصها أو عشوائيات يتوجب تهذيبها أو شوائب ينبغي إزالتها … ومثال ذلك الإفراط والتفريط.. وسنتحدث في هذا المنشور عن الإفراط الذي يكون في عدة حالات نذكر منها:
.
1- (الإفراط في الحب):
خلال السلوك واتباع القدوة ومحبتها قد يقع السالك في عملية تطرف في حبه لمن يقتدي به.. وإن كان السالك لا شيخ له يعرّفه بقواعد السلوك.. فإنه قد يضل السير في إفراطه في حبه فيقع في الغلو.. أي يصل إلى مرتبة تأليه نبي أو رسول أو إمام أو حاكم أو سلطان أو خليفة أو شيخ أو رمز.. قال تعالى ((لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم)).. وقال تعالى ((اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله)).. وقال تعالى ((ما كان لبشرٍ أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنُّبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون* ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً أيأمُرَكم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون)).. وما ذلك إلا لأن السالك قد شذَّ عن القاعدة عند الفناء حيث فني في المخلوق بدل الخالق..
وما علم هذا التعيس أن المخلوق ليس له إلا المرآتية التي تعكس بعض صفات الجمال.. فالعبادة لمصدر الكمال لا للمرآة.. وللمنبع لا للعاكس.. وللأصل لا للفرع..
.
2- (الإفراط في العبادة والرياضة والمجاهدة):
بحيث لا يكتفي السالك بأوامر الشرع فيبتدع من عنده رياضات وحركات وأفعال وعبادات لم ينزل الله بها من سلطان.. فيؤدي إلى إرهاق نفسه وتشتيت طاقته.. وما علم هذا الغافل أن تطبيق الشرع بقوانينه الواضحة فقط هو أجلُّ عبادة وأكمل مجاهدة.. لأن النبي ص قال: (ما من شيء يقربكم إلا الله إلا وأمرتكم به.. وما من شيء يبعّدكم عن الله إلا ونهيتكم عنه).. فالمجاهدة لا تكون بإضافة حركات لم يأمر بها الشرع.. بل تكون في العمل على زيادة التركيز والتأمّل والتدبُّر والإخلاص والتخلص من الرياء خلال العبادة.. وإلا فإن ركعتين بإخلاص تعادل آلاف الركعات بلا إخلاص.
ألا يعلم هذا الغافل الذي ضلَّ الطريق أن سرعة السير فيه لا تزيده إلا بعداً.. أما السالك في الطريق الصحيح فإن الخطوة إثر الخطوة تقربه من الهدف المنشود.. فإياكم والبدع في الدين وزيادة ما ليس منه.. فالدين والشرع كامل لا نقص فيه حتى يأتي هذا وذاك ليضيف إليه برأيه وهواه..
.
3- (الإفراط في الزهد):
حيث يبتعد السالك عن الزينة وما أحلَّ الله ويلبس الرثَّ من الثياب.. ظناً منه أنه في ذلك تقرَّب إلى الله.. وما علم هذا المسكين أن الله لا ينظر إلى الأبدان بل ينظر إلى القلوب.. فما فائدة هذا التقشف إن كان القلب ممتلئٌ بالدنيا ومتعلّقٌ بأهلها وزينتها.. قال تعالى ((قل من حرَّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصةً يوم القيامة كذلك نفصِّل الآيات لقومٍ يعلمون))..
وعن الإمام الصادق عليه السلام عندما سئل عن ثيابه الفاخرة بخلاف أمير المؤمنين عليه السلام.. فأجاب بأن ذاك زمان فقر.. ولكنه عليه السلام مع ذلك أشار إلى لباس خشن تحت لباسه الفاخر الناعم وقال: (هذا اللباس الخشن لله.. وهذا لكم)..
فالزهد الحقيقي هو أن تخفي زهدك لا أن تظهره وترائي به الخلق..
ومثل ذلك ما جرى مع الجنيد رحمه الله عندما استنكر المتصوفة ارتداءه لباس الفقهاء الفاخر من العمامة والجبَّة بدل الصوف الخشن.. فقال لهم: (إن حصلت الحرقة فما نفع الخرقة)..
.
4- (الإفراط في البسط):
فكثرة البسط من دون قبض هي مدخل للشيطان من نافذة هوى النفس.. تؤدي لاحتجابه عن حضرة القدس.. فلا يرى عظمة للحق ولا جلال بحجة التغني بحضرة الجمال.. ويحتجب بهواه عن هيبة مولاه.. فيقع في المحاذير من رقص وهرج ومرج وسكر وعربدة وغناء ودوران وجنون ومجون..
وهذه والله هي صفات الصبيان والقرود.. ودليل انعدام التوفيق والحرمان من الوصال والورود..
.
وفي هذا الكلام عبرة للمتبصرين وغنى للسالكين وزاد للمسافرين ونجاة للسائرين.. لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد من المؤمنين.. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته..
…………………………..