التعريف بعلم العرفان والتصوف – 17-
مقدمات توضيحية
(المقدمة الثانية عشر): بيان نسب الخرقتين الصوفية والعرفانية
بقلم الفقير لله تعالى: أحمد يوسف نده
(طرطوس: الخميس 8-3-2018م)
……………………………………….
ورد في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي عند حديثه عن العلوم التي انبثقت على يد أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه.. كالنحو والعربية والفقه والتفسير والقراءات القرآنية والسياسة والأخلاق.. حتى وصل إلى علم الطريقة والحقيقة وأحوال التصوف فقال: (وقد عرفت أن أرباب هذا الفنّ في جميع بلاد الإسلام.. إليه ينتهون وعنده يقفون.. وقد صرَّح بذلك الشبلي والجنيد وسري السقطي وأبو يزيد البسطامي ومعروف الكرخي وغيرهم.. ويكفيك دلالة على ذلك: الخرقة التي هي شعارهم إلى اليوم.. وكونهم يُسندونها بإسنادٍ متَّصلٍ إليه عليه السلام) انتهى كلامه.. فهذا من أوضح دليل على أنه عليه السلام القطب الذي عنه شعَّت تلك العلوم والأنوار..
.
وقد اشتهر بين الصوفية أن (معروف الكرخي) رضي الله عنه قد أخذ نسبه وخرقته في التصوف عن طريقين.. فالخرقة الأولى ترجع إلى الحسن البصري عن أمير المؤمنين علي ع.. والخرقة الثانية أخذها عن الإمام علي الرضا ع عن آبائه عن أمير المؤمنين علي ع..
وقد يتساءل البعض عن معنى وجود خرقتين ونسبين في التصوف.. فنجيبهم بأن هذا يؤيد كلامنا السابق ويشهد بصحة تقسيم هذا العلم إلى قسمين: فالعرفان النظري والعلوم الإلهية أخذها عن الإمام الرضا عن آبائه وأجداده عليهم السلام.. وأما التصوف العملي المتمثل بالزهد فهو يرجع في نسبته إلى الحسن البصري الذي اشتُهر بالزهد في زمانه.. متابعاً في ذلك أمير المؤمنين علي ع المعروف بزهده وعلمه وحكمته وأنه باب مدينة علم رسول الله ص.. فإلى الإمام علي ع ترجع كلا الحكمتين العملية والنظرية في التصوف والعرفان..
.
ومن هنا ندخل إلى بحثنا ومطلبنا عن طريق طرح السؤال التالي:
طالما أن الأئمة عليهم السلام هم معدن الحكمة.. وهم الذين يعرفون مقامات الناس ويكلّمونهم على قدر عقولهم واحتمالهم.. فهل هناك شخص من حواريي الإمام ومريديه وتلامذته وأصحابه يقدر أن يحتمل علم الإمام الناطق أكثر من ابنه الذي هو الإمام الصامت؟؟
للتوضيح نضرب هذا المثال: هل هناك شخص يستطيع أن يأخذ العلوم الربانية العرفانية من الإمام الباقر ع على قدر الإمام الصادق ع؟؟
والجواب: قطعاً لا يوجد.. لأن من شروط الإمام أنه أعلم أهل زمانه.. وخليفة الإمام لا بد أن يكون كالإمام أي أعلم أهل زمانه… وبالتالي فإن ما يحتمله الصادق ع عن الباقر ع لا يُقارن بما يأخذه الآخرون عن الباقر ع..
.
وهكذا يتسلسل الأمر إلى المهدي عليه السلام.. فإن ما ورثه الحجة عن آبائه لا يقارن بما أخذه الأصحاب والتلاميذ والرواة عنهم.. وبالتالي فالنسبة والخرقة التي ترجع إلى قائم آل محمد عجّل الله فرجنا به لا تُقارن بأي خرقة من تلك التي ترجع إلى أحد من آبائه..
فهذا النسب الذي نقوله هو النسب المتصل إلى إمام الأئمة علي ع في خرقتيه الصوفية العملية والعرفانية العلمية.. واللتان ترجعان إليه ولكن بتوسط الإمام المهدي عن العسكري عن الهادي عن الجواد عن الرضا عن الكاظم عن الصادق عن الباقر عن السجاد عن سيد الشهداء والمجتبى عن المرتضى عليهم سلام الله عن الخاتم عليه أفضل الصلاة والسلام عن أمين الوحي جبريل عليه السلام عن الله جل جلاله.. هي الخرقة المسماة بالسلسلة الذهبية الكاملة والتامة في علوم التصوف والعرفان.. وحامل هاتين الخرقتين والنسبين هو ما يعرف بــ (الوارث المحمّدي العلوي)..
.
وبما أن البشر وصلوا إلى مرحلة النضوج العلمي والعقلي والديني منذ بعثة النبي إلى غيبة المهدي.. بعد أن تمت مرحلة التنزيل والتشريع على يد الخاتم.. ومرحلة التأويل والتفريع على يد الأئمة.. فلأجل ذلك صحَّت غيبة المهدي.. لا كما يقول البعض أنه سلام الله عليه غاب خوفاً من فراعنة بني العباس..
بل إن البشرية وصلت إلى مقام استطاعت من خلاله حمل هذه العلوم الربانية والأمانة المحمدية.. فقامت عنه الحجج في عالم البشر..
فإذا كان الأئمة عليهم السلام هم خلفاء الله في أرضه وظله في خلقه.. فإن حملة هذه الخرقة من العرفاء المحققين والسادة العلويين هم خلفاء الأئمة وظلهم.. أي أنهم بمرتبة ظل الظل وعكس العكس..
.
يؤيد ذلك كلام أمير المؤمنين ع والذي أوردناه في المنشور رقم (10).. ونعيده للتذكرة والتبرك بكلام إمام الموحدين وأرجو تدبُّر كلامه حيث قال: (اللهم بلَى.. لا تخلو الأرض من قائمٍ لله بحجةٍ.. إما ظاهرًا مشهورًا.. وإما خائفًا مغمورًا.. لئلا تبطل حججُ الله وبيّناته.. وكم وأين أولئك؟! أولئك والله هم الأقلُّون عددًا والأعظمون عند الله قدراً.. بهم يدفع اللهُ عن حججِه حتى يؤدُّوها إلى نظرائهم.. ويزرعوها في قلوب أشباههم.. هجم بهم العلم على حقيقة الأمر.. فباشروا روحَ اليقين.. فاستسهلوا ما استَوْعَرَ منه المُترفُون.. وأَنِسُوا بما استوحشَ منه الجاهلون.. وصحبوا الدنيا بأبدانٍ أرواحها معلَّقة بالمنظر الأعلى.. يا كميل، أولئك خلفاءُ الله في أرضه ودعاته إلى دينه.. آه، آه شوقًا إلى رؤيتهم).. وهؤلاء هم المقصودون من الحديث المروي عن النبي ص عندما قال: (اشتقت لأحبابي) أو (وودت أني قد رأيت إخواننا).. وعندما سُئل عنهم قال ص: (أناس يأتون في آخر الزمان يؤمنون بي ولم يروني.. القابض منهم على دينه كالقابض على الجمر)..
.
وبعد هذا البيان نقول: من أراد التقرب إلى الحضرة الإلهية والبدء بالسلوك نحو الكمال والصفاء والارتقاء.. فعليه أن يشمّر عن ساعد الجد.. ويبدأ بالسعي الحثيث في طلب العلم.. والالتزام بالعبادة.. والتحلي بالأخلاق والتقوى..
ومن أراد أن يرتقي معنا في طلب العلم قربةً إلى الله فهذه المنشورات موجّهة إليه.. وأهلا وسهلاً به في هذه الطريق الموحشة في سلوكها.. القليل سالكوها.. المعطّلة بئرها.. المخروقة سفينتها.. المساكين ركابها.. فسيروا على بركة الله وحسن توفيقه.. بسم الله مجراها ومرساها.. وأما من أراد التشويش على مسيرتنا هذه.. فسيكون نصيبه الحظر.. لأنه – صدقاً- لا وقت لدينا للجدال بالتي هي أسوأ..
.
كانت هذه مقدمات اثنا عشر.. جعلناها على عدد أئمة الدين الاثنا عشر… عليهم وعلى الخاتم صلوات وسلام ربّ الملائكة والبشر.. بقدر ما أشرقت شمسها وأهلَّ القمر.. وبعدد نجوم السماء وما أنزلت غيومها من حبات المطر..
.
وبهذا نكون قد أوضحنا من خلال هذه المقدمات ماهية السلوك العلمي والعملي وأركانهما.. ثم ذكرنا أهمية هذا العلم على المستوى الفردي والاجتماعي.. كما بيّنا حجية هذا العلم من الكتاب والسنة والعترة.. وذكرنا أقوال الحكماء ومراتبهم وأسفارهم.. وأشرنا إلى الخرقة الصوفية ونبّهنا إلى أشرف الطرق المتصلة بالسلسلة الذهبية.. وهكذا نكون قد انتهينا من التمهيد وسندخل في مباحث هذا العلم الشريف.. وسنقوم في المنشور القادم بذكر مباحث علمي العرفان والتصوف وتبويبها وتقسيمها.. دمتم بخير والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته…
……………………………………..