التعريف بعلم العرفان والتصوف – 6-
مقدمات توضيحية
(المقدمة الرابعة):
السبب الأساسي لتراجع علم العرفان والتصوف في الأمة
بقلم الفقير لله تعالى: أحمد يوسف نده
الخميس 21-12-2017
……………………………………….
يقع كثير ممن يدعي العرفان والتصوف في مغالطات وانحرافات تؤدي إلى تعطيل مسيرته نحو الحق… وخصوصاً إذا عرفنا أن طريق السفر العرفاني هو صراطٌ أحدُّ من السيف.. والانزياح عنه قيد شعرة لا يعني فقط التوقف.. بل قد يؤدي إلى الوقوع في الهاوية.. فالانحراف في السفر العرفاني يشبه نظرية الشواش الفيزيائية.. بحيث أن حصول أي شائبة علمية أو طفرة عملية ستصبح منشأ لشوائب وطفرات متعددة إن لم تُقوَّم صارت بدعاً وانحرافات تودي بصاحبها إلى المهالك.. ومن هنا كانت الحاجة لوجود المرشد الواصل.. كي يضبط هذه الانحرافات ويقوّم سلوك المريد.. ولكن قلَّة المرشدين الواصلين وندرتهم في زماننا أدَّى لظهور أخطاء كثيرة.. حتى صرنا نسمع بقصص وأعمال يندى لها الجبين.. تُنسَب للتَّصوف والتَّصوف منها براء.. وسنشير هنا إلى بعض الانحرافات التي تعترض هذا العلم والفن والسفر.. وسنبدأ بالخطأ الأساسي الذي هو منشأ جميع الأخطاء.. ألا وهو اهمال المؤسسات التعليمية الدينية لهذا العلم وما نتج عن ذلك من ادعاءات واشكالات أدت لضياع هذا العلم.. وأريد هنا وضع اليد على الجرح ثم تقديم النقد الإيجابي المرفق بالحلول:
.
يعتقد بعض الذين ينسبون أنفسهم للتصوف والعرفان أن هذا العلم ليس بعلمٍ أصلاً.. بل هو عبارة عن تقويم أخلاقٍ وسلوكٍ.. ونحن لا ننكر أن تقويم الأخلاق له أهميته وفائدته في توجيه الناس وتربيتهم.. إذ لا يمكن تدريس العلوم الدقيقة لغير أهل الاختصاص.. ولكن أن تتحول هذه الطريقة لتشمل جميع المريدين من طلبة العلم وغيرهم.. فهذا قتلٌ لعلم العرفان وإلغاءٌ له.. وهو ما حصل فعلاً في عالمنا العربي.. إذ تسلَّم زمام هذه العلوم من هم ليسوا أهل اختصاص فحصروه في نطاق الأخلاق وأخرجوه من دائرة الفكر والعمق العلمي..
.
فنحن عندما تتبعنا كلماتهم ودرسنا أحوالهم.. وجدنا أن سبب ذلك يرجع إلى أنهم قرأوا كتب العرفاء من غير مرشد ومن غير تخصص بمعرفة الاصطلاح والنظريات.. فلم يفهموا منها شيئاً.. أو فهموا منها ما يخالف المتعارف عليه بين أصحاب هذا الفن.. فاكتفوا بالإعراض عنها لحسن ظنهم بأصحابها.. مع أن هناك من اتهم أصحابها بأبشع التهم.. فتركوا هذا العلم في بطون الكتب واكتفوا فقط بمعالجة بعض الصفات السلبية في أخلاق المريدين كالرياء والجشع والبخل والتواكل.. وتحفيظهم بعض الأوراد والأدعية والأذكار..
.
ومن يراجع محاضرات الدكتور مصطفى البغا في شرحه لكتاب (ضوابط المعرفة) للشيخ حبنكة.. تجده يشير إلى المجالس التي تُعقد باسم التصوف.. يتم فيها قراءة فصوص الحكم لابن عربي وفتوحاته المكية.. ولكنها تُقرأ من غير فهم ولا معرفة.. حتى أدى بالبعض إلى تحريم قراءة هذه الكتب..
وكذلك من يطَّلع على الاتهامات والفتاوى التي يوجهها بعض مراجع النجف لعرفاء قم وتحريمهم لهذا العلم.. يجد أن أغلبية من يمسك زمام التعليم في الأمة إنما هم الفاقدون لهذه الرتبة الربانية.. والمحرومون من هذه الدرجة العلمية..
وكي لا نذهب بعيداً نأتي إلى مؤسسة الأزهر التي ترفع لواء التصوف في العالم الإسلامي.. وللأسف فإننا لن نجد للتصوف والعرفان الأزهري من أثر على أرض الواقع العلمي.. بل إنك لا ترى سوى طرق حصرت نفسها بالبعد الأخلاقي والغناء الصوفي.. وعزلت أبناءها عن البعد الفكري الراقي.. حتى استوى العامي والعالم في علم العرفان النظري.. فلا تسمع من جمهورهم سواء كانوا مشايخ أو عوام إلا استنكارا وإنكارا وتكفيرا لمن درس هذا العلم أو تكلم به.. والحق معهم لأن من جهل شيئاً عاداه كما قال إمام الموحدين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه..
.
كل ذلك أدى إلى إصابة الرحم العرفاني بالعقم في عالمنا العربي.. وبالتالي انقراض العرفاء المحقّقين المدقّقين.. الذين يناقشون نظريات من قبلهم ويضيفون عليها بل وينتجوا معارف جديدة وفتوحات عرفانية راقية.. وابتُلينا فقط بظهور حالات استنساخ بشرية لعرفاء وصوفية القرن الثالث والرابع والخامس والسادس الهجري.. يرددون كلماتهم ويتغنُّون بأشعارهم من دون فهم ولا دراية ولا تحقيق ولا تجديد ولا تطوير.. الأمر الذي شكل ثغرات في أوساطنا حتى بتنا نشاهد مسوخيات فكرية تدعي العرفان والتصوف وتنطق على مواقع التواصل الاجتماعي بأفكار ورموز وأرقام وأشعار هم أنفسهم لا يفهموها.. بل يستغلون تلك العناوين البراقة لجذب العامة واستغلالهم والضحك عليهم بهدف الشهرة وأمور أخرى..
.
وهنا أقولها بصراحة.. إن علم العرفان النظري بشكل عام يعكس حالة الرقي الحضاري والفكري الذي تعيشه الأمة.. وهذا هو حال الأمة عندما كانت في أوج حضارتها.. ولكننا وجدنا موت هذا العلم واندثاره بُعيد انهيار الحضارة العربية على يد المغول.. وبداية عصر ابن تيمية ثم الاحتلال العثماني والدخول في غيابات الجهل والتخلف.. فلم يعد لهذا العلم أثر إلا في حالات التصوف العملي المتمثلة في الانعزال والتقوقع والدوران.. اللهم ما عدا بعض الإشراقات التي كانت موجودة في بلاد فارس والتي نرى بعض أثارها اليوم في حوزة قم.. والتي لم يسلم عرفاؤها من تكفير فقهاء التحجُّر الفكري..
.
وإذا أردنا اليوم أن نتطور روحياً ونستعيد الثقة بالشخصية الإسلامية التائهة بين الإباحة والتطرف والإفراط والانهزام العلمي والنفسي.. فعلينا العودة إلى هذا العلم الذي يمثّل أرقى أشكال التوحيد والمعرفة.. والعلاج يكمن في إحياء هذا العلم الجليل.. وذلك عن طريق البحث عمَّن تبقى من متقني هذا الفن وإعطائه عصا التدريس والتأليف لتغيير المناهج الأكاديمية.. وإحداث اختصاصات وأقسام عليا تهدف إلى تدريس هذا العلم المعطَّل في أوساطنا العلمية.. والمحصور في مقرر يتيم يقتصر على دراسة تاريخ التصوف وأقوال العرفاء من دون الوقوف على نظرياتهم وتحقيقها ومناقشتها وفهمها.. وهذا لا يقتصر على مذهب دون آخر فجميع المذاهب عندها فكر صوفي وعرفاني..
.
وهذا الحل كفيل بإعادة إنتاج عرفاء موحّدين يرتقون في عملية التفكير الإسلامي للوصول إلى فتح جديد في عالم المعرفة الصوفية.. فكم هناك من طلبة تتشوق لهذا العلم.. تملك الاستعداد للخوض في بحاره.. وخصوصاً في زماننا الذي يمتاز باليسر في تحصيل الكتب والمراجع وإمكانية الاطلاع على آخر ما توصل إليه العلم والفكر.. فإن للتطور العلمي دورٌ مهم في فهم الكون والعالم من جهة.. وفهم النفس البشرية من جهة أخرى.. وهذا له أكبر الأثر في حصول الفتوحات الإلهية والإشراقات النورانية والمعرفة الملكوتية.. وفي المنشور القادم سأبين للجميع أهمية هذا العلم وانعكاسه على المجتمع والدولة.. وسأشير إلى النتائج الخطيرة التي تترتب على تراجع هذا العلم أو تطوره.. دمتم بخير والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته..
……………………………………….