التعريف بعلم العرفان والتصوف – 5-
مقدمات توضيحية
(المقدمة الثالثة): سبيل السلوك الصوفي والعرفاني
بقلم الفقير لله تعالى: أحمد يوسف نده
الخميس 14/12/2017
……………………………………….
بعد أن اتضح لنا ماهية السلوك العلمي والعملي وأن غايته الوصول إلى الحضرة الإلهية.. وأن معنى الوصول هو التشبه بالله على قدر الاستطاعة البشرية.. فيبقى علينا معرفة الطريق التي ينبغي سلوكها كي نصل إلى الله تعالى.. فما هو سبيل هذا السلوك؟
.
أولاً- في المجال النظري والعلمي:
.
لا سبيل إلى مثل هذا الاستكمال إلا بدراسة العلوم العقلية والنقلية.. فلا يتعب أحد نفسه بأي طريق آخر لتحصيل الكمال العلمي.. فالطريق هو دراسة المنطق والفلسفة وعلم الكلام والعقيدة والعرفان النظري وباقي العلوم الإسلامية.. ولا يتوهم أحد أنه بالتكامل بالسلوك الصوفي العملي يمكنه أن يتكامل في الجانب النظري.. إذ أن هناك اختلاف واضح وتباين في أركان كل من الحركتين العلمية والعملية كما بيَّنا في المنشورات السابقة.. فالعمل له حركته.. والعلم له حركته الخاصة والمختلفة عن غيره.. طبعاً إلا حالة النبوة.. فالأنبياء ليسوا بحاجة إلى معلم بشري وكتب دراسية وجامعات.. بل علومهم مأخوذة عن طريق الوحي الإلهي..
.
فلو بقي الإنسان يتكامل في العمل ليلاً نهاراً يصوم ويصلي مائة عام فلن يخرج عالماً أبداً… نعم يُحصّل تكاملاً في شيء آخر وهذا طبيعي.. لأن الإنسان عندما يعمل في جمع الأموال يزداد مالاً لا علماً… كما أن جمع العلم لا يؤدي إلى الغنى المالي.. فلو بقيت في الجامعة والمكتبة والبحث والدراسة ألف سنة لأصبحت عالماً ولكنك لا تصبح غنياً…
فلا يمكن أن تسير في طريق ويحصل استكمال طريق آخر لم يُطوَ بالحركة.. فهذا محالٌ عقلاً…
فالطريق لتكامل القوة النظرية يكمن في دراسة العلوم وتحصيلها وطلبها..
……………………………………
ثانياً- أما الطريق لتكامل القوة العملية فيكون بثلاثة أركان:
.
1- العبادة: فالعبادة أهم وظيفة في التوجّه.. وكلنا يعرف أن نية القربى لله تعالى إن لم تؤخذ في العبادة تكون باطلة.. والنية هي التوجه قربى لله أي للتقرب إليه سبحانه..
.
2- الزهد: والذي هو قطع العلائق وتنزُّه الإنسان عن الأمور المادية.. ولكن ليس باللسان واللباس.. بل في مراد القلب وتعلقه.. فمربط الفرس هو القلب.. فالزهد لا يعني خلو اليد من الدنيا.. بل قمة الزهد أن يخلو القلب من الدنيا حتى لو كانت في يده…
.
3- التحلي بالصفات الحسنة والأخلاق الحميدة: ولا يكون ذلك بحفظ الاصطلاح وقراءة كتب الأخلاق.. فالأخلاق لا تأتي بالدراسة والحفظ.. بل بتشربها من قبل القدوة الصالحة والمربي الفاضل والشيخ المعلم.. فإن السلوك والأدب يأتي عن طريق مشاهدة السلوك الصالح في المعلم.. ثم خدمته وملازمته.. ثم انعكاس هذا السلوك على المريد كما تنعكس الصورة في المرآة.. ليصبح السالك صورة مرآتية تحاكي المعلم في أخلاقه الحميدة وطباعه اللينة وأدبه الرفيع.. لذلك وجب على المريد حسن اختيار المعلم وأن يكون من العارفين الواصلين والكاملين في الجانبين العلمي والعملي…
.
ويجب التنويه أيضاً إلى أن التكامل في الجانب النظري وإهمال الجانب العملي لن ينفع شيئاً.. فما هي الفائدة من علمك ومعرفتك إن لم تستخدمها في الخير والطاعة والعبادة والأخلاق.. لا بل إن التكامل في العلم دون العمل قد ينعكس سلباً على السالك.. لأن العلم يحتاج لأخلاق تحمله وتحرسه كالتواضع والحلم والصبر.. وإلا دخل الغرور والتكبر والعجب والتجبر إلى نفسه.. فيصبح علمه حجة عليه ووبالاً يوقعه في محذورات تخرجه عن مسيرته وتوقعه في مسالك البدعة والضلالة..
………………………………..
ثالثاً- العلاقة التكاملية بين العلم والعمل:
.
من خلال ما ذكرنا تبين أن الإنسان الذي يسعى للتكامل لا يمكنه أن يسير في سلوك ويستغني عن الآخر.. ولقد أشار القرآن الكريم لهذه العلاقة التكاملية في قوله تعالى: ((إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه)).. فالكلم الطيب هو كلمة التوحيد ومعرفة الله.. فهذه هي التي تصعد إلى الباري.. ولكن بتوسط آلة الرفع ألا وهي العمل الصالح.. وفي المقابل فإن وجود الرافعة ينفع فقط في حال وجود أشياء لرفعها.. فلو كان الإنسان جاهلاً فاقداً للكلم الطيب والمعرفة الإلهية.. فإن عمله ورافعته لن ترفع شيئاً.. فالغاية تكمن في أمرين: تحصيل المعرفة الحقة وهذا يتم بالتعلم وطلب العلم.. ثم رفعها وإيصالها إلى الله وذلك لا يكون إلا عن طريق العبادة والعمل الصالح والخلق الكريم..
وقال تعالى: ((واعبد ربك حتى يأتيك اليقين)).. ولن نأخذ بالتفسير السطحي لليقين بأنه الموت الطبيعي للبدن.. بل اليقين هو الأثر الناتج عن العلم الذي يؤدي لانكشاف الواقع على ما هو عليه في حقيقة الأمر.. فتكون العبادة هي الوسيلة لتحقق هذا العلم اليقيني.. ولا يظن أحدهم أن حصول اليقين يعني انتفاء الحاجة للعبادة.. بل كما أن العبادة وسيلة لحصول اليقين فهي وسيلة لاستمراره وبقائه للسالك.. وبلغة الاختصاص فالعبادة هي العلة في حدوث اليقين وهي العلة في بقائه واستمراره عند السالك..
وبهذا نجد أن هناك علاقة ديالكتيكية جدلية تكاملية بين العلم والعمل.. ولأهمية هذه العلاقة بينهما سنعرض في المنشور القادم بعض الأخطاء والمغالطات التي يرتكبها بعض السالكين والمريدين أو بعض من يدَّعي الإرشاد والتربية والتعليم… فإلى الأسبوع القادم والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته..
……………………………………………..