شرح دعاء كميل

  • Creator
    Topic
  • #486
    Tasneem
    Keymaster
    • المشاركات: 2,176

    للهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء

    توجه الإمام (ع) في هذه الفقرة ومابعدها بسؤال الحق تبارك وتعالى بصفاته، وهو أقرب وألطف لعامة المؤمنين من سؤاله بكبرياء الأحدية، كما في دعاء السيفي الصغير (المعروف بدعاء القاموس) مثلا، “رب أدخلني في لجة بحر أحديتك، وطمطام يم أحديتك”، فالسؤال بصفات الله أوضح من السؤال بأسمائه، والسؤال بأسمائه أسهل للعباد من السؤال بأحديته، وهو الواحد الأحد،

    وبداية الدعاء بالسؤال بصفة الرحمة واضح من افتتاح بسم الله الرحمن الرحيم سور القرآن الكريم ماخلا واحدة، وأكد بأن رحمته سبحانه وتعالى، قد وسعت كل شيء، كأنه يريد القول بأنه يتمنى ويطلب ويتوسل بأن تشمل:
    1. نفسه إن كان من أهل النفس الأمارة بالسوء، أن تصير نفسه من أهل النفس اللوامة.
    2. وإذا كان من أهل النفس اللوامة، أن تكون نفسه من أهل النفس المطمئنة.
    3. وإذا كانت نفسه مطمئنة، أن يكون قلبه مطمئناً.
    4. وإذا كان قلبه مطمئنا، أن تكون روحه مطمئنة.

    أي يدعو الحق تبارك وتعالى أن تشمله رحمته إن كان في درجة ما، بأن يكون في درجة أعلى منها وأرفع، وهذا لاينافي مقام الرضا الذي يقضي على العبد بأن يقف على حد الرتبة التي قسمها له الحق تبارك وتعالى.

    فإن كان من المريدين، طلب أن يكون من السالكين، وإن كان من السالكين طلب أن يكون من المستشرفين، وإن كان من المستشرفين، طلب أن يكون من العارفين، وإن كان من العارفين، طلب أن يكون من الثابتين، وإن كان من الثابتين، طلب بأن يكون من الواقفين.

    وإن كان الداعي هو الإمام المعصوم عليه السلام، كان طلبه للرحمة التي وسعت كل شيء، هو زيادة سعة استخلافه للهوية الأحدية الغيبية، فالخلافة المحمدية هي المستخلفة للهوية الأحدية الغيبية الكامنة الغير معروفة لأحد من الأنبياء والمرسلين الغير معبودة لأحد منهم، “ماعرفناك حق معرفتك، وماعبدناك حق عبادتك”،،،

    “وبقوتك التي قهرت بها كل شيء”

    السؤال بصفة القوة التي من صفاتها القهر، ولعله من اسم الله الواحد القهار وغيره في الحضرة الواحدية،،، لذلك تجد بعد ذلك،”وبأسمائك التي ملأت أركان كل شيء”،،،

    “وخضع لها كل شيء، وذل لها كل شيء”

    تأكيد على هذه الصفة العظيمة بعد صفة الرحمة المذكورة في الفقرة الأولى،،،

    “وبجبروتك التي غلبت بها كل شيء”

    يطلب من الحق تبارك وتعالى بجميع اسمائه المهيمنة على عالم الجبروت، والتي تستطيع أن تغلب كل شيء،،،

    وأجدر طلب هنا (لغير المعصوم) هو أن يغلب الحق تبارك وتعالى بجبروته على نفسه، فلتنظر إلى تعريف النفس لهذا الحقير في كتاب:”العرفان ومقامات أهل الولاية” بأن النفس جوهر لم يتجلّ الحق تبارك وتعالى عليه بجبروته فلم ينكسر!، فهاهنا الطلب بأن يتجلى الحق تبارك وتعالى على بجبروته على نفسه، فتنكسر، فيجد الله عندها،،،

    “وبعزتك التي لا يقوم لها شيء “

    يسأله بعزته تعالى أن يتجلى عليه بعزته،،، وتجليه عز اسمه بعزته، يولد صدمة معروفة عند هذه الطائفة بصدمة العزة، أو مقام الصدمة، وهي من منازل الهيبة بعكس الأنس، وإن قلت أي هيبة، فهي هيبة الإجلال، وهيبة الإجلال من أقصى درجات الخوف، وأعلى درجات الخشوع،

    فبعد أن كان خائفا من عذاب الله تعالى المتولد من التصديق بآيات العذاب القرآنية، وروايات الجحيم المعصومية، فبعد تصديقها والإذعان بصحتها وصدقها، مقرونا باستحضار الذنوب والمعاصي والآثام (والكلام هنا ليس عن المعصوم) ومراقبة المستقبل والعاقبة والموت، والجلوس أمام منكر ونكير في ساحة الانتظار والسؤال والحساب، كل ذلك يولد الخوف الذي يصح به الإيمان،،،،

    وتفثأ حرارة هذا الخوف الطمأنينة والراحة المتولدة من الرجاء، نتيجة التقرب بأداء الواجبات والمستحبات والبعد عن المحرمات والمكروهات،،،

    ففي أوائل مسيرة أهل الله، لابد من الخوف والرجاء، ويتقلب بينهما، بين الحين والحين،،،،

    لكن أيضا شعوره بالخوف يربطه باسم الله تعالى:”القوي”، و “الجبار”، و “القهار”،،، وشعوره بالرجاء يربطه باسم الله “الرحمن”، و “الرحيم”

    فإذا استشعر هذا الشعور، تيقن أن جبروت الله وعزته (المذكورة في هذه الفقرة من الدعاء) لاتتغير بزيادة خوفه أو نقصانه بالرجاء، فعزته هي هي كما هي من الأزل إلى الأبد، وأيضا رحمته كما هي من الأزل إلى الأبد، فهو العبد الحقير المسكين الذي يتغير ويتقلب، فإذا استدام عنده هذا الحال وذلك الشعور وهذه المرحلة من الشهود القلبي، أصبح يتقلب بين القبض والبسط، بدلا من الخوف والرجاء،،،،

    والآن بعدما أصبح يسير بين القبض والبسط، مطالعة أزلية الحق تبارك وتعالى تخالجه أنفاس المهمومين أحيانا:”نفس المهوم لهمنا تسبيح”، وأنفاس الراحة والأنس تارة أخرى، فيرسل نفسه في أوقات الأنس بالله عز وجل نفسا مشوبا بالحلاوة التي يخامرها نوع آخر من الخوف، وهو الخوف أن يكون ممكورا به، ووقع في مكر أو استدراج، فليجاهد لكي يتخلص من ذلك،،،

    وبعد ذلك ماعليه إلا أن يصبر أن يمن عليه الحق بصدمة العزة (المشار إليها أعلاه)، وأن يتجلى عليه الحق تبارك وتعالى بعزته، “ولما تجلى ربه للجبل جعله دكا، وخر موسى صعقا”، فليبحث عن صعقته،،،

    “وبعظمتك التي ملأت كل شيء”

    يسأله بعظمته التي ملأت كل شيء، أن يعرف عظمته (وليس الكلام عن المعصوم)، لأن رتبة المعصوم تم توضيحها في شرح أول فقرة، في أول مشاركة، فهو يسأله بعظمته أن يعرف عظمته، كما سيأتي في الدعاء “وأستشفع بك إلى نفسك”، ومعرفة عظمته عز وجل ستولد عند الذي يعرفها شعور بالتذلل لتلك العظمة،

    ونتيجة التذلل لتلك العظمة، شدة التعظيم والتوقير، قال تعالى:”ومالكم لاترجون لله وقاراً”،

    لكن هذا التوقير من الناحية العملية ينعكس في كل شيء، وأدنى درجاته توقير الأحكام الشرعية، بتعظيم الأمر والنهي، وتصديق الوعد والوعيد، وإقامة المعاملات على الأسس الشرعية بمنتهى الدقة.

    وتعظيم القضاء والقدر، اللذين حكم بهما الحق تبارك وتعالى،،، كما سيأتي في الدعاء،”واجعلني بقسمك راضيا قانعا”، فهذا التعظيم يبعث على الرضا، وقد شرط الحق تبارك وتعالى أنه لابد من الرجوع إليه الدخول في الرضا، حيث قال:”وارجعي إلى ربك راضية مرضية”،

    ثم تعظيمه حق تعظيمه أن ترى أن كل ما يأتي من الحق تبارك وتعالى يستوجب الشكر، سواء كان ما أتى منه محببا إلى النفس، أو شيئا من الابتلاء مما لاترتضيه النفس عادة، وسيأتي في الدعاء، “وأن توزعني شكرك” أي أن المنازل العالية من الشكر موهبة من الحق تبارك وتعالى عليه أن يطلب من الحق أن يهبها له،،،

    فيدعو الله بهذه العظمة التي أصبح يعرفها والتي ملأت كل شيء أن تملأ أرجاء وجوده وكيانه،،،،

    ” وبسلطانك الذي علا كل شيء “

    وقال تعالى:”يامعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض، فانفذوا، لاتنفذون إلا بسلطان”،،،

    فكأنه يسأله بسلطانه الذي علا كل شيء أن ينقذ من أقطار السماوات والأرض، لكن لماذا؟ الجواب في الآية، قال تعالى:”وجنة عرضها السماوات والأرض”،،،،

    فيكون سؤاله لكي يكون من الذين أهل الجنة يستضيئون بنورهم،،،

    الذين يشملهم الاستثناء في الآية:”ونفخ في الصور، فصعق من السماوات ومن في الأرض، إلا من شاء الله”

    فلايكون من المصعوقين،،،، لأنه قد صعق بالعزة كما في شرح فقرة العزة أعلاه،

    وهو الآن بسلطانه جل وعلا قد خرج من أقطار السماوات والأرض، فكيف يكون من المصعوقين، لكنه مشغول يناغي سناء الحضرة الأحدية، ويشاهد بهاء العزة التي صعتقه يوم أن كان في دار الدنيا، والقوم في صعقتهم وفي حشرهم،،،

    نسأل الله أن يمن على الجميع بهذه الرتب والدرجات،،،

    “وبوجهك الباقي بعد فناء كل شيء”

    يسأل الحق تبارك وتعالى البقاء بعد الفناء، قال تعالى:”كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام”، فلاحظ أن صفة الجلال والاكرام لوجهه تعالى،

    فهو يسأل الله البقاء، لكن البقاء لايتحقق إلا بعد الفناء،

    فناء إرادة العبد في إرادة الحق تبارك وتعالى،

    فيرتفع علمه ارتفاعا حتى يصل إلى أعلى درجات المعرفة، لكن هذه المعرفة تضمحل وتتلاشى في المعروف، فيتبقى المعلوم ويسقط العلم، كما قال على (ع) لكميل (رض):”محو الموهوم، مع صحو المعلوم”،

    فكل شيء فان، لكن ليس كل شيء باق، لكن من فنى في الله، بقي بالله،،،،

    فالفناء في الله، والبقاء بالله،

    والباقي مع بقاء العبد ما بقي بعد سقوط الشواهد والآيات والكرامات، بعد تلاشيها واضمحلالها عند قمة التمكن وأعلى درجات الاستقرار،

    “وبأسمائك التي ملأت أركان كل شي”

    انتقال من السؤال بالصفات إلى السؤال بالأسماء، لكن بالكثرة الأسمائية في الحضرة الواحدية، لأنها أقرب إلى الداعي من كبرياء الأحدية – لقد تم شرح الواحدية والأحدية في مواضيع من قبل – وهو يسأله عز وجل أن يملأ بالأسماء أركان كل شيء، فمن الأولى أن يملأ جميع أركان وجوده، نفسه، وعقله، وقلبه، وفكره، ثم روحه وسره، وخفيه، وأخفاه، أي جميع جواهر نفسه الناطقة،

    فيكون بحق مظهرا من مظاهر أسماء الله تبارك وتعالى وتجلياته، كما قال الامام الصادق (ع):
    «الصوّرة الانسانية هى اكبر حجّة الله على خلقه و هى الكتاب المبين الّذى كتبه بيده، و هى الهيكل الّذى بناه بحكمته و هى مجموع صور العالمين و هى الطريق المستقيم الى كل خير، و هى الحبل الممدود بين الجنة و النّار.»

    فطالما أن صورة ابن آدم هي مجموع صور العالمين، فهو في هذا العالم من أهله، وأيضا في عالم الملكوت هو معه من أهله ويستطيع أن يعيش ويحيا معهم، ومع أهل الجبروت جبروت، كما قال زين العابدين (ع):”فسماهم أهل الملكوت زوارا، ودعاهم أهل الجبروت عمارا”.

    “وبعلمك الذي أحاط بكل شيء”

    تعظيم للحق تبارك وتعالى الذي أحاط بكل شيء علما، فينسب إليه أعلى درجات العلم، وهي الإحاطة بعين الشيء كما هو، فيسأل الله بعد أن أناله العلم الجلي المتوافر لدى سائر العلماء، أن يمن عليه بعلم من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم، فيصير يتقلب بين العلم والعمل وكل منهما يورث الآخر إلى أن يمن الله عليه بغتة بالعلم اللدني الذي هو من لدن الله تعالى أي رشحات العلم الذي أحاط بكل شيء، رزق الله المؤمنين والمؤمنات إياه،،،

    وبنور وجهك الذي أضاء الله كل شيء، يانور ياقدوس،

    لأن كل خير هو نور

    اليقظة مقدمة السير والسلوك إلى الله تعالى، هو نور الانتباه والالتفات، فإن لم ير هذا النور لن يتيقظ إلا بعد الموت، “الناس نيام، إذا ماتوا انتبهوا”،

    البرق، الذي يلمع للسالك ويأذن له في دخول طريق أهل الله، نور يلمع له، كما قيل أول السفر الثاني،

    كما قال صاحب المنازل،

    باب البرق
    قال الله عز وجل:”إذ رأى ناراً”، [20،10].
    البرق باكورة تلمع للعبد فتدعوه إلى الدخول في هذا الطريق.
    والفرق بينه وبين الوجد، أن الوجد يقع بعد الدخول فيه، فالوجد زاد والبرق إذن. وهو على ثلاث درجات:
    الدرجة الأولى برق يلمع من جانب العدة في عين الرجاء، فيستكثر فيه العبد القليل من العطاء، ويستقل فيه الكثير من الأعباء، ويستحلي فيه مرارة القضاء.
    والدرجة الثانية برق يلمع من جانب الوعيد في عين الحذر؛ فيستقصر فيه العبد الطويل من الأمل، ويزهد في الخلق على القرب، ويرغب في تطهير السر.
    والدرجة الثالثة برق يلمع من جانب اللطف في عين الافتقار، فينشئ سحاب السرور، ويمطر قطر الطرب، ويجري نهر الافتخار.

    ثم مبدأ السفر الثالث، برؤية نور عوالم الملكوت والجبروت واللاهوت، فيندهش لغلبة هذه الأنوار على الأنوار التي رآها من قبل، فيتحقق له السكر، فإذا أفاق، كان واجبه هداية الناس وإرشادهم لهذه التجليات في سفره الرابع،

    فمن مبدئه إلى منتهاه يدور مداره بحثا عن النور، من درجة إلى التي أعلى منها حتى يظفر بما قسم الله له، ثم يهدي من أراد الله أن يهديه على يديه، ليصيب منه ماهو مكتوب،،،

    فالنور هو الرفيق في الطريق، من أول إلى آخره، فنع الرفيق في هذه الغربة، لأنه من نور الله عز وجل، فخاطبه بصفة محببة جدا إلى السالك وبعدها قدسه:”يانور، ياقدوس”.

Viewing 3 replies - 1 through 3 (of 3 total)
  • Author
    Replies
  • #487
    Tasneem
    Keymaster
    • المشاركات: 2,176

    “يا أول الأولين ويا آخر الآخرين”

    هو الأول والآخر، بنص القرآن الكريم،

    لكن الأمير (ع) هنا نعته سبحانه وتعالى بأول الأولين، لكي يبين للداعي أن جميع عباد الله تعالي قديمون في علمه، فقديمون لكن لا أولية لهم قباله وتذونب في أوليته سبحانه وتعالى،،،

    وكذلك الأمر بالنسبة لآخر الآخرين،،، ففي النهاية يفنى الجميع ويبقى وجهه عز وجل، فالذين فنوا في وجهه تعالى باقون ببقائه، لكن تذوب سرمديتهم في سرمديتهم كما تذوب القطرة في البحر،

    ولا يأتي في ذهنك أنه إذا كان لامتناهيا عز اسمه، فيكون لامتناهي غيره، فالأعداد التي نستخدمها في الحساب لانهاية لأولها وآخرها أيضا،

    لكن هل كل اثنين لامتناهيين متساويان،،، كلا،،، فهناك لامتناه أكبر من غيره،،،

    سبحانه وتعالى، ليس كمثله شيء، لاتدركه الأبصار، وهو اللطيف الخبير،،،

    اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل النقم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تغير النعم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء، اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء، اللهم اغفر لي كل ذنب أذنبته وكل خطيئة أخطأتها،

    نبدأ ببعض الأخبار التي توضح الآثار الخاصة للذنوب، وإن كانت تلك الأثار المترتبة في عالم الطبع، لكن ستكون بحثنا العرفاني على الأثار المترتبة في العوالم الغيبية

    وإليك هذا الخبر فعن الإمام الصادق عليه قال: الذنوب التي تغير النعم البغي والذنوب التي تورث الندم القتل و التي تنزل النقم الظلم والتي تهتك الستر شرب الخمر والتي تحبس الرزق الزنا والتي تعجل الفناء قطيعة الرحم والتي ترد الدعاء وتظلم الهواء عقوق الوالدين .

    الذنوب التي تنزل النقم هي : نقض العهد وظهور الفاحشة وشيوع الكذب والحكم بغير ما أنزل الله تعالى ومنع الزكاة وتطفيف الكيل .
    والذنوب التي تحبس الدعاء هي: سوء النية وخبث السريرة والنفاق مع الأخوان وترك التصديق بالإجابة وتأخير الصلاة المفروضة حتى تذهب أوقاتها .
    والذنوب التي تنزل البلاء هي: ترك اغاثة الملهوف وترك اعانة المظلوم وتضييع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

    فالسالك إلى الحق تبارك وتعالى بقدم المعرفة يهمه زوال الأثر المتكون في العوالم الغيبية أكثر من زوال الأثر في عالم الطبع، فنزول النقم في هذا العالم محدود بحدود عمره، ولكن بعد الموت لايعلم لمتى تستمر هذه النقم إن كانت بعد الموت، كما سيأتي في الدعاء، “وهذا بلاء قصير مدته”، فالآن قد علمت أن للذنوب أثاراً في هذا العالم كما هو واضح في الدعاء، بل وفي أدعية أخرى أثارا كثيرة مماثلة مثل هذا الدعاء،

    وفي هذه الأدعية يطلب من الحق تبارك وتعالى المغفرة من تلك الذنوب، ولاتتم المغفرة إلا بزوال الأثر الغيبي المترتب على الذنوب، لذلك من الممكن اعتبار أن النار هي التي تخلص العباد من لوزام أعمالهم (الذنوب)، وتطهرهم من أدناسها، فإذا تطهروا قد يتأهلون لدخول الجنة، فالسالك إلى الحق تبارك وتعالى بقدم المغرفة يجعل كل تركيزه في زوال الأثر الغيبي للذنب، لكن كيف يعرف ذلك؟ يعرفه من قبول التوبة، فإذا كان ذنبه مغفوراً، وكانت توبته مقبولة، زال الأثر الغيبي للذنب قبل الموت، وذلك هو الفوز حقا، لأن إزالته بعد الموت، تقتضي العذاب في نار وما أدراك ذلك، وقد عرفت أن هذا المعنى سيرد في الدعاء فيما بعد كما تبين أعلاه،

    وقد بين أمير المؤمنين سلام الله تعالى عليه عدة معاني غزيرة تتصل بالتوبة من مقدمات وملازمات ولواحق في قوله في الدعاء

    وقد أتيتك يا إلهي بع تقصيري وإسرافي على نفسي معتذراً نادماً منكسراً مستقيلاً مستغفراً منيباً مقراً مذعناً معترفاً لا أجد مفراً مما كان مني ولا مفزعاً أتوجه إليه في أمري غير قبولك عذري وإدخالك إياي في سعة من رحمتك، اللهم فاقبل عذري 

    فبين أنه من شروط التوبة الاعتذار، وتعتذر لمن عصيته ولو على أتفه ذنب من الذنوب لأن العصيان كان للحق جل شأنه، والندم واشتعال نيرانه في القلب من شروط التوبة الصادقة الحقيقية، وهما يولدان الانكسار، والاستقالة من منازل التفويض الذي يشترط التوكل، الذي بدوره يشترط الزهد والورغ، وكلاهما يشترطان التوبة، والاستغفار أصل التوبة، والإنابة يسلك طريقها في تحقيق التوبة، لأنه إذا كانت التوبة عهداً، فالإنابة حين الوفاء بذلك العهد، وقد اعتذر حين التوبة، وحين الانابة يصلح ما أفسده وأوجب عليه الاعتذار لله عز وجل وللخلق ممن آذاهم وظلمهم، والاقرار والاذعان والاعتراف، يعرف بهم انخلاعه عن العصمة بإتيانه الذنوب، ويشعر بخسة قدره، وسفال منزلته، وتفاهة قيمته،،،

    ثم كيف يعرف أن توبته قد قبلت؟ يأتيه الحق تبارك وتعالى بشاهد يشهد له على ذلك، عندئذ عليه بالجد في السير نحو الأمام، بعد تعظيم الذنوب والجنايات التي ارتكبها في حق نفسه والخلق والله عز وجل، ومعرفة الخطر فيها،،، 

    ويسلك طريق الإنابة، ليكون من أهل التذكر، قال تعالى:”ومايتذكر إلا من ينيب”

    قال أمير المؤمنين (ع):”اللهم إني أتقرب إليك بذكرك وأستشفع بك إلى نفسك، وأسألك بجودك أن تدنيني من قربك “،،،

    بدأ في التقرب إلى الله تعالى بذكره،،، وأدنى درجات الذكر ذكر اللسان، ثم ذكر اللسان بحضور القلب، ثم ذكر اللسان بهدف تلقين القلب، كالمعلم الذي يلقن الصبي، ثم الذكر الذي ينقدح في العقل من نور القلب، فيشتغل الفكر تماما بالحق تبارك وتعالى عما سواه، كالذي عنده مشكلة يفكر فيها وتشغله على الدوام، فيكون الحق تبارك وتعالى شغله الشاغل، فيتخلص في الفتور والكسل في العبادة التي تحولت إلى سياحة في عالم الملكوت اللامتناهي، وتجول في عالم العزة والجبروت، ويستغرق في هذه المعاني، فتأتيه شواهد وعلامات تشهد له بأن الحق تبارك وتعالى يذكره، قال تعالى:”فاذكروني أذكركم”، فبعد أن كان ذاكر أصبح مذكورا، ويعد أن أصبح مذكورا، أصبح مشاهداً لذكر الحق تبارك وتعالى إياه، فوجد الله عنده، فأولئك هم الفائزون، “ماذا فقد من وجدك، وماذا وجد من فقدك”.

    والذي يجد الله تعالى عنده، يحق له أن يستشفع به إلى نفسه، وأن يسأله ويطلب منه أن يتعطف عليه بأن يقربه إليه أكثر فأكثر،،،

    قال أمير المؤمنين (ع):” وأن توزعني شكرك”

    إشارة واضحة أنه لايستطيع القيام بحق شكر الله عز وجل سوى الله تعالى، فهو تعالى الشكور، كما لايستطيع توحيده حق توحيده سوى نفسه، قال تعالى:”شهد الله أنه لا إله إلا هو”، فالعبد من أوائل طريقه إلى الله يجب أن يتحلى بالشكر، الذي هو اسم لمعرفة النعمة، لأنها السبيل إلى معرفة المنعم (صاحب المنازل)، فيشتغل فكره بالنعم، ويتأمل فيها، وييأس من عدها، قال تعالى:”وإن تعدوا نعمة الله لاتحصوها”، فيكون مشاهداً عظمة المنعم، فيشكره على النعمة، وتبدأ الروابط في الازدياد بين العبد وربه إلى أن يستطيع أن يشكره حين الابتلاء، وليس فقط حين الرخاء،

    ثم يرتفع إلى تلك المرتبة بأن يطلب من الحق تبارك وتعالى أن يعلمه كيفية الشكر، فلو أن أحداً منا قضى عمره كله في سجدة واجدة لشكر الله على نعمة واحدة لما كان شكره وافيا، سبحانه وتعالى الشكور،،

    “وأن تلهمني ذكرك”

    يوضح لنا أمير المؤمنين (ع) أن الذكر الحقيقي لايكون إلا إلهاماً من الحق تبارك وتعالى، وقد اتضحت لك بعض منازل الذكر عند شرح، “اللهم إني أتقرب إليك بذكرك”، وعرفت أن الذكر الحقيقي هو أن تكون مذكوراً من الحق تبارك وتعالى وليس أن تكون ذاكراً، بل أن تكون مشاهداً لذكر الحق تعالى إياك، وأن تكون هذه الحالة مستمرة مستديمة معك على الدوام لاتنفك بأي حال الأحوال، والآن عرفت أنه لايتحقق ذلك إلا بالإلهام من الحق تبارك وتعالى، الذي هو مقام الذين تنزل عليهم الملائكة، قال تعالى:”ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده”، وقال:”إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولاتحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون”.

    #488
    Tasneem
    Keymaster
    • المشاركات: 2,176

    للهم إني أسألك سؤال خاضع متذلل خاشع أن تسامحني وترحمني 

    قال تعالى:”ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ومانزل من الحق”،

    فبعد أن قال:”وأن تلهمني ذكرك”، وأصبح ذكره ذكرا حقيقيا بشهود ذكر الحق تبارك وتعالى إياه، فلابد أن قلبه كان خاشعا، ونفسه قد خمدت، وطباعه قد هدأت، لظهور هيبة الحق وجلاله وسطوته وكبريائه على قلبه، فسأله بحالة الخشوع، التي لابد من أن يتخللها التذلل لله، والاستسلام التام لقضائه وقدره (في الفقرة التالية يطلب الرضا)، ولما كان الخشوع ناتجا عن الجلال فقط طلب منه الجمال، حيث طلب أن تسامحنى وترحمني، أو إن شئت قلت أن الخشوع متولد من القهر، فطلب منه اللطف بالمسامحة والرحمة،،،

    وتجعلني بقسمك راضياً قانعا 

    قال تعالى:”وارجعي إلى ربك راضية مرضية”

    فاشترط الحق تبارك وتعالى للرجوع إليه الدخول في الرضا، فلابد للسالك إليه بقدم المعرفة من الدخول في الرضا، وأقل درجاته الرضا بالله رباً، بترك عبادة مادونه من أهواء النفس والجري وراء الأسباب، والرضا بالله في كل ماقضى وقدر، وهو الرضا بالقسم كما في الفقرة، والقناعة التي هي من منازل الزهد الذي هو ضرورة لمريدي هذا الطريق،،،

    وفي جميع الأحوال متواضعا

    التواضع للدين، والتواضع للمؤمنين، والتواضع لله عز وجل،،،

    التواضع للدين، تعظيم الأمر والنهي، والالتزام الكامل بالشريعة السمحاء، وعدم التطاول على أصحابها لأنه من السالكين في طريق الحقيقة، فألا يتكبر على أصحاب الشريعة.

    التواضع للمؤمنين، بأن يرضى بأن يكونوا له إخوة، طالما أن الحق تبارك وتعالى ارتضاهم عبادا له،،،

    والتواضع لله، أن يعرف ماله وما لله، وما منه وما من الله، وهو أن السيئة من نفسه والحسنة من الله، وكل ما يأتي من الله يستوجب الشكر، ومايأتي منه يستوجب العذر،،،

    اللهم وأسألك سؤال من اشتدت فاقته وأنزل بك عند الشدائد حاجته 

    يشير الأمير (ع) هنا إلى فقره وفاقته وحاجته إلى الحق تبارك وتعالى:”ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني”،،،

    والفقر هو عدم رؤية ما يملكه الإنسان من أمور مادية، فيراها كلها ملكا لله عز وجل، وبذلك يكون من منازل الزهد والبعد عن الدنيا، وعدم الاكتراث بها، فهؤلاء القوم الذين يذمون الدنيا، فيظنون أنهم على مستوى عال من التدين، هم في الواقع مغرمون بها لأنهم يذمونها، أما أهل الله فلايمدحونها ولايذمونها لأنها ليست موجودة في تصورهم إلا دار تكامل ومزرعة للأخرة، ومحضر الحق تبارك وتعالى وأوليائه،،،

    ومن درجات الفقر الأخرى، رؤية جميع المواهب الربانية، والنفحات السبحانية التي يعيشها السالك العرفاني إلى الله، يراها مجرد مواهب مستعارة لايد له فيها، فلايتزين بصلاة الليل، بل يراها توفيق إلهي، ولايشاهد لنفسه رفعة في حالات الشوق والوله التي يعيشها مع الله،،،

    وأعلى درجات الفقر، هو الاضطرار الحقيقي إلى الله عز وجل، “أمن يجيب المضطر إذا دعاه”،،،

    ثم الاحتباس في سجن الغربة، حيث يرى كل شيء على حقيقته الناس وغيرهم، ويرى سبق الله بعلمه وحكمته في كل شيء،،،

    سجن الجمع،،،

    سجن الغربة،،،

    أوج الاحتباج والفقر والفاقة إلى الله عز وجل،،،

    وعظم فيما عندك رغبته

    وقال تعالى:”ويدعوننا رغباً ورهباً”،،،

    الترهيب والترغيب،،، أعلى من الخوف والرجاء،،،

    فالرهبة أعلى من الخوف،،،

    والرغبة فوق الرجاء،،، الذي هو فوق التمني،،، والرغبة أكثر محركية من الرجاء،،، ففيها سلوك إلى الوصول،،، وكلها كسائر مقامات السير والسلوك لها درجات ورتب ومراتب، فرغبة أرباب الأعمال، تختلف عن رغبة أرباب الأحوال اختلافا كثيراً، وبالتالي تختلف عن رغبة أرباب الأوقات، ورغبة أرباب الأنفاس،،،

    فرغبة أرباب الأعمال: أن تكون أعمالهم خالصة إلى الله عز وجل، صافية نقية من كل شوب، قال تعالى:”ألا له الدين الخالص”، والقيام بالأعمال التي أمرهم الله بها، على أفضل وجه، وتصاحب هذه الرغبة رهبة (التفت إلى الترغيب والترهيب)، وهي رهبة ألا تقبل أعمالهم، “والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة”،،، أو رهبة أشد أن يكونوا من:”وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً”،،،

    ورغبة أرباب الأحوال: أن تكون محبتهم لله عز وجل محبة صافية نقية، فتولد شوقا نارا إلى الله عز وجل، وأن تكون تلك المحبة وقودا وزادا لهم، نحو مزيد من التقدم في السير، وأن تكون لديهم الغيرة القاتلة التي تيعث على الالتزام الشديد، وأن يجددوا التوبة عن ماسوى الله عز وجل،،،

    ورغبة أرباب الأوقات: أن يرتفع بهم اللهب الذي يشتعل في صدورهم إلى الله عز وجل،،، إلى راحة وسعادة المكاشفة والمشاهدة،،،، وإلى نعيم المعاينة،،، والتلذذ بمقام العندية،،، “في مقعد صدق عند مليك مقتدر”،،، “وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار”،،،

    ورغبة أرباب الأنفاس: بعدما حصلوا على مقامة العندية، ومايصاحبه من علم، “فوجدا عبداً من عبادنا، فآتياناه رحمة من عندنا، وعلمناه من لدنا علما”،،، فالآن وقتهم لتصحيح الأحوال، وتبرئتها من شهوة الروح، وما آدراك ماشهوة الروح، إنها من خصائص هذه الطائفة، لم يتكلم عنها أحد غيرهم، ولم يتذوقها أحد إلا كان منهم،،،

    “اللهم عظم سلطانك”، عود على بدء، “وبسلطانك الذي علا كل شيء”، لذلك قال بعدها:”وعلا مكانك”، ثم “وخفي مكرك وظهر أمرك”، فهو تعالى الظاهر الباطن، وقال تعالى:”قل يامعشر الانس والجن إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا، لاتنفذون إلا بسلطان”، وهذا هو السلطان الذي علا كل شيء، وهو الذي له الخلق والأمر، فظهر أمره، فمن كان عنده مفتاح عالم الأمر، يكون من الذين يقولون للشيء كن فيكون، فهو يتوسل إلى الحق تبارك وتعالى الذي ظهر أمره أن يعطيه مفتاح عالم الأمر، وذلك أيضا بالخروج من أقطار السماوات والأرض، بتصريح خاص من السلطان الذي علا كل شيء، وإذا خرج من أقطار السماوات والأرض، حيث لاخلق ولا أمر، أصبح مستوليا مسيطراً على عالم الأمر، فأصبح من أهل كن فيكون،،،

    وهذا بعد أن تعلم أن الأمر ماصدر عن الحق تبارك وتعالى، والخلق صدر عن الأمر، “خلق الله الأشياء بالمشيئة، وخلق المشيئة بنفسها”،،،

    فتأمل في تلك المرتبة العزيزة المنيعة،،، لذلك قال:

    “وغلب قهرك”

    عوداً على قوله:وبقوتك التي قهرت بها كل شيء”،،،

    فهو الواحد القهار،،، فبعد أن صرت من أهل كن فيكون، ستعلم من هم الجنود الإلهية التي تنفذ تلك الأوامر، ومن هي الجنود التي تعمل تحت بطش القهار، والآن هي أصبحت جنودك أنت، لأنك تقول للشيء كن فيكون، كما يقول الحق تبارك وتعالى للشيء كن فيكون، الحديث،،، عبدي أطعني تكن مثلي، أقول للشيء كن فيكون، وتقول للشيء كن فيكون،،،

    فهذه ذروة العز،،،،

    “ولا يمكن الفرار من حكومتك”،

    هذا أمر واضح أنه يستحيل الفرار من حكومة الحق تبارك وتعالى، حيث يقول:”يا معشر الجن والأنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا، لاتنفذون إلا بسلطان”،،،

    فهذا هو الفرار المستحيل وقوعه، لأن الذي يطلبه هو المجرم العاصي، لكن المؤمن يطلب فرارا آخر، حيث يقول الحق تبارك وتعالى:”ففروا إلى الله”،،،

    وهذا فرار من الجهل إلى العلم،،،

    ومن الكسل إلى التشمير،،،

    والخبر إلى العيان،،،

    ومن الاستدلال العقلي، إلى المشاهدة العينية،،،

    وفرار من عالم الملكوت إلى عالم الجبروت،،،

    وفرار من عالم الخلق إلى عالم الأمر، ثم فرار إلى حيث لاخلق ولا أمر،،،

    وفرار من عالم الجبروت إلى عوالم الأسماء الحسنى كحقيقة واقعية،،،

    وفرار من السماء الأولى إلى السماء الثانية، ومن الثانية إلى الثالثة، ومن الثالثة إلى الرابعة، حتى السابعة،،،

    ثم فرار من جميع السماوات والأرض إلى الملآ الأعلى،،،

    ثم فرار من الملأ الأعلى، إلى كبرياء الأحدية،،،

    ثمر فرار مما دون الله إلى الله عز وجل،،،

    ثم في ذات عملية فرارك من الحق تبارك وتعالى إليه عز اسمه: هل أنت فار في أثناء ذلك الفرار أم لا؟؟؟

    #489
    Tasneem
    Keymaster
    • المشاركات: 2,176

    “اللهم لا أجد لذنوبي غافرا”

    الذنوب متأصلة في العبد، بل في كل العباد، لكن هل الذنوب صفة غريزية في العبد لاتنفك عنه، كالأكل والشرب والنوم، مثلا، إن الذي يتأمل في ذلك سيعلم أن ارتكاب الذنوب ليس أمرا غريزيا في العبد على الاطلاق، وإن العبد الصالح يمكنه محاصرة الذنوب، وتدريب نفسه وترويضها على تركها، فمن الممكن تصور عبد أنه لايستطيع القتل، ومن الممكن تصور مؤمن صالح لايشرب الخمر، فإذا تمكن العبد من أن يقيم لنفسه قائمة من الذنوب – خصوصا المبتلى بها – فقطعا ستكون هذه القائمة متناهية، أي أن عدد الذنوب التي قد يرتكبها في أي وقت من الأوقات سيكون محدودا، فيحصرها، وليبحث عن كيفية ترويض نفسه ومقاومتها في عكس حركتها، لكي تتخلص من ارتكاب تلك الذنوب، والتوبة منها بشروطها ودرجاتها، كما هو معروف في كتب الأخلاق،،،

    بل إن السالك إلى الحق تبارك وتعالى بقدم المعرفة سيعلم في مرحلة ما أن المقامات المعنوية هي التي يمكن أن تكون غريزية فيه كالأكل والشرب والنوم، متأصلة معه لاتنفك عنه، وقد يكون ذلك بعد الوصول والتمكن، فالذي عنده اهتمام فليتابع، ولعل هذا المعنى الذي قد يشار إليه بالقول:”بقوة معانيهم”، أي أن معانيهم – أو مقاماتهم المعنوية – أصبحة غريزية فيهم لاتنفك عنهم، كالأكل والشرب والنوم لبني الإنسان،،،

    وفي الفقرة أيضا يبحث الداعي عن غافر يغفر له ذنوبه، ولايوجد سوى الله تعالى، لكن السالك الذي يريد أن يبلغ التحقيق، ولو فقط في مقام التوبة، لابد له أن يتأكد أن توبته قد قبلت، بعد أن أقام في مقام التوبة فترة ونزل فيه، وندم على ذنوبه، واعتذر إلى الله عز وجل عنها، وأقلع تمام عن المعصية، وجاء حين الإنابة والرجوع إلى الله والتكفير عن كل الذنوب في حق نفسه وفي حق غيره، وبعد كثرة الاستغفار، فكل ذلك لايضمن له أن الحق تبارك وتعالى قد غفر له ذنوبه، فهو في حالة بحث عن غافر، في حالة بحث عن الله كي يغفر له ذنوبه، أي إنه في حالة بحث عن شاهد من الحق تبارك وتعالى يشهد له أن الله قد غفر ذنوبه بالفعل، قطعا لاشكا، يقينا لايشوبه أي ريب،،،

    فالسالك يدعو الله في تلك الفقرة، متوسلا إليه أن يرزقه ذلك الشاهد، كي يروي عطشه، ويشفي غليله، وأمثلة على ذلك الشاهد، قد تم توضيحها في مواضع أخرى، إحداها مثلا أن يرى المعصومين بالمنام، يبشرونه بقبول توبته،،،

    “ولا لقبائحي ساترا”

    يبحث الداعي (السالك) لساتر لقبائحه وذنوبه وأفعاله ومخالفاته، وقد ورد هذا المعنى لاحقا في الدعاء حين يقول:”وكل سيئة أمرت بإثباتها الكرام الكاتبين الذين وكلتهم بحفظ مايكون مني، وجعلتهم شهودا علي مع جوارحي، وكنت أنت الرقيب علي من ورائهم، والشاهد لما خفي عنهم، وبرحمتك أخفيته، وبفضلك سترته”، 

    فستر الله تعالى قبائح العبد من حبه إياه ولطفه به سبحانه وتعالى، وفي مرحلة ما من المراحل، حين وصول العبد عالم الملكوت – في مقام المحدثين الموضح في موضوع:”حوارات مع السالكين”، وموضوع:”محاسبة النفس في كل عاشوراء، طريق للقاء الإمام الحجة (عج) – من درجات هذا المقام شهود معنى ستر وإخفاء الذنوب عن الملائكة، حين يلتقي السالك بهم يجدهم لايعلمون بعضا من ذنوبه، فيعاين ويذوق حب الله تعالى له، فيتولد لديه نوع من الشوق إلى الله لم يكن موجودا من قبل، فشوقه السابق كان للجنة – على أثر الإيمان بالآيات والروايات – لكن هذا الشوق ليس متولدا من الايمان والتصديق بتلك الآيات والروايات (مع تعظيمها)، لكنه متولد من شهود ستر الله قبائح العبد عن الملائكة، في مقام المحدثين.

    “ولا لشيء من عملي القبيح بالحسن مبدلا غيرك”

    قال تعالى:”إن الحسنات يذهبن السيئات”، فذهاب السيئات (بواسطة الحسنات) درجة، لكن تبديلها درجة أعلى، فالداعي (السالك)، يرجو تلك الدرجة العليا من الله عز وجل، ويتمناها، فكيف يتبدل العمل الطالح إلى عمل صالح، لايستطيع فعل ذلك إلا الله جل شأنه، حيث صورة العمل قائمة في هذا العالم (عالم الطبع) وآثارها مشهودة لصاحب العمل وغيره، والصورة أيضا قائمة ومشهودة كما هو معروف عن تجسد الأعمال،،،

    ولعل مايجب على الداعي (السالك) هو أن يرزقه الحق تعالى معرفة القوانين الخفية، والأسباب الغير مرئية، التي تكون وراء تبديل الأعمال القبيحة بالحسنة، فيذهب يفتش في روايات أهل بيت العصمة عليهم السلام، باحثا عن مثل هذا المعنى، كي يكتشف ماهو المقياس وراء ذلك التبديل، محاولا اكتشاف القواعد الخفية وراء ذلك التبديل،،،

    فيرجو الله ويتضرع إليه أن يرزقه ذلك العلم، ففعلا الله سبحانه وتعالى هو المبدل، لكن هل هناك وسائط أم لا؟ مثل قبض الروح حين الوفاة، فالقابض هو الحق تعالى بواسطة ملك الموت، كما نطق بذلك محكم التنزيل،،،

    فعمل ما في وقت ما في مكان ما، قد يبدل عملا آخر، فيصبح القبيح حسنا، ففتش عن أعمالك القبيحة، واتهم نفسك قبل أن تحاسب، وابحث عن كيفية تبديلها إلى أعمال حسنة، فمثلا بالصدقات،،،

    وكما هو نهج هذه الطائفة – وكما هو مشار إليه أعلاه – لابد لك من شاهد يشهد لك أن ذلك التبديل قد حدث بالفعل، إن كنت من أهل القلق للحصول على تلك الأدلة للوصول إلى تلك الرتبة،

    وإلا ياعزيزي فأنت تقرأ هذا الدعاء، وعمرك عشرون عاما، فهلا تحققت بهذا المعنى، وأصبحت عندك مجموعة من الشواهد على تحقق معانيه لديك، وعمرك الأربعون، فلاتضع العمر هباءً، فكل عبارة في الدعاء، فيها طلب ورجاء، لكنها إذا تحققت لابد لها من شاهد يؤيدها، ويؤكد صحتها، ويثبت العبد ويطمئنه، ويستفزه إلى المزيد ثم المزيد، والله الموفق.

    “لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ظلمت نفسي، وتجرأت بجهلي”

    توحيد الحق تبارك وتعالى وتنزيهه وحمده وشكره قبل أن يقر بنفسه على ظلمه إياها، وظلم النفس مصدره الذنوب، في حق النفس وفي حق الغير، وأول مراتب الخروج منه هي اليقظة، والانتباه من سنة الغفلة، ومن مراتبه أيضا الغفلة عن ذكر الحق بذكر النفس، فهذان لايلتقيان أبدا كالدنيا والآخرة، بل أحدهما يمثل الدنيا (ذكر النفس)، والآخر يمثل الآخرة (ذكر الله تعالى)، لكن خدع النفس كثيرة فتجده يذكر نفسه من حيث يظن أنه يذكر الله تعالى، لذلك وصف الداعي نفسه بالجهل، فاستحق أن يكون متجرئا على الحق تبارك وتعالى، فإذا كان الداعي من العابدين الزاهدين (وليس من السالكين إلى الحق تبارك وتعالى بقدم المعرفة)، فهو يرى ظلمه لنفسه بارتكاب المحارم والمآثم، فعليه بالتوبة، وتصحيحها، ثم التوبة من التوبة (قال تعالى:”وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون” – فأمر التائب بالتوبة)، 

    وأما إذا كان الداعي من السالكين، فظلمه لنفسه، قد يكون حتى بالغفلة عن الله عز وجل ولو بخاطرة من خواطره، وقد تقدم ذكر نفي الخواطر، والإشارة إلى بعض المصادر في هذا الصدد.

    أما إذا كان الداعي – في هذا المقام – إماما معصوماً فالأفضل عدم الخوض في تفسير ذلك إلا بما صرح به المعصوم (ع) نفسه، لأن أي تفسير لذلك سيغلب عليه الظن، فللمتأمل في هذا الموضع أن يقول:

    إن الإمام المعصوم (ع) بمقامة الشامخ وسريان ولايته في عوالم الغيب والشهود سريان النفس في قواها، قد يرى ظلمه لنفسه، وتجرأه بجهله، كوسيلة للتضرع والخشوع لله عز وجل، ليزداد قربه من رسول الله (ص)، وتقل دائرة التفاوت بينهما، في عوالم الغيب والشهود.

Viewing 3 replies - 1 through 3 (of 3 total)
  • You must be logged in to reply to this topic.