التعريف بعلم العرفان والتصوف – 12-
مقدمات توضيحية
(المقدمة التاسعة): مراتب الحكماء
بقلم الفقير لله تعالى: أحمد يوسف نده
الخميس 1 – 2 – 2018
……………………………………..
قبل بيان هذه المراتب لا بأس من التعرض لقول شيخ الإشراق السهروردي رحمه الله يصف مراتب الحكماء:
(والمراتب كثيرة وهم على طبقات وهي هذه: حكيمٌ إلهي متوغّل في التأله عديم البحث.. حكيم بحّاث عديم التأله.. حكيمٌ إلهي متوغّل في التأله والبحث.. حكيم إلهي متوغّل في التأله متوسط في البحث أو ضعيفه.. حكيم متوغّل في البحث متوسّط في التأله أو ضعيفه)..
ثم يبيّن تفاضل هذه المراتب فيقول: (فإن اتفق في الوقت متوغّل في التأله والبحث فله الرئاسة وهو خليفة الله.. وإن لم يتّفق فالمتوغل في التأله المتوسط في البحث.. وإن لم يتفق فالحكيم المتوغل في التأله عديم البحث وهو خليفة الله.. ولا يخلو الأرض عن متوغّل في التأله أبداً.. ولا رئاسة في أرض الله للباحث المتوغّل في البحث والذي لم يتوغّل في التألّه.. فإن المتوغّل في التأله لا يخلو العالم عنه.. وهو أحق من الباحث فحسب.. إذ لا بُدَّ للخلافة من التلقّي..).
ثم يبين رحمه الله معنى الرئاسة التي يقصدها: (ولست أعني بهذه الرئاسة التغلّب.. بل قد يكون الإمام المتألّه مستولياً ظاهراً مكشوفاً.. وقد يكون خفياً.. فإذا كانت السياسة بيده كان الزمان نورياً.. وإذا خلا الزمان عن تدبير إلهي كانت الظلمات غالبة).
.
ونحن وإن كنا نوافق على كثير مما ورد في كلامه رحمه الله.. إلا أننا لا نوافق على حصر الحكمة بالذوقية والعقلية فقط.. لأن مقصده من التأله هو كونه من أهل الكشف والذوق… ومقصده من البحث والبحّاث هو كونه من أهل البحث العقلي والمنهج المشائي..
فهذا الكلام وإن كان يصح في الأزمنة القديمة.. حيث كان هناك حكماء وعرفاء في كافة الحضارات.. إلا أنه بعد بعثة الخاتم صلوات الله عليه وآله.. فإن الكمال لا يتحقق إلا بضم مصدر الوحي أي الحكمة النقلية إلى مصدري العقل والذوق..
فالمُحكَم من النقل الوارد عن أهل العصمة المؤيد بالوحي الإلهي.. هو المهذّب لبعض أوهام المباحث العقلية والعاصم من شطحات بعض المكاشفات الذوقية..
ولا يُعدُّ الحكيم حكيماً ما لم يضبط أصول النقل ويعرف محكم الآيات القرآنية من متشابهها.. وأصول الروايات والأحاديث من فروعها.. ويكون متوغلاً في مباحث التفسير والتأويل..
.
وبالتالي فإن من حاز على الحكمة النقلية كان مجتهداً ومتكلماً ومفسراً ومحدثاً.. ومن حاز على الحكمة الذوقية كان صوفياً.. ومن حاز الحكمة العقلية كان فيلسوفاً..
ومن جمع بين الحكمة النقلية والعقلية كان من فقهاء الفلاسفة.. ومن جمع بين الحكمة الذوقية والعقلية كان من عرفاء الصوفية.. ومن جمع بين الحكمة الذوقية والنقلية كان من فقهاء الصوفية..
وأعلى مراتب الحكماء هو من جمع بين العقل والنقل والكشف.. فهو الحكيم العارف المتأله.. وأهل هذه المرتبة أعز من الكبريت الأحمر.. وأمثال هؤلاء الأقطاب كاللؤلؤ الذي يتصوَّر في قلب المحار في باطن البحار.. لا ينجب الزمان أمثالهم إلا الآحاد في القرون والعشرات في الدهور.. قدَّس الله أرواحهم ورزقنا رضاهم..
.
ولا بأس أن نشير في الختام إلى المراتب الأخرى التي ذكرها السهروردي لبيان درجات طلبة الحكمة حيث يقول: (هناك طالبٌ للتأله والبحث.. وطالبٌ للتأله فحسب.. وطالبٌ للبحث فحسب).. ثم يقول: (وأجود الطلبة طالب التأله والبحث.. ثم طالب التأله.. ثم طالب البحث.. وكتابنا هذا لطالبي التأله والبحث.. وليس للباحث الذي لم يتأله أو لم يطلب التأله.. ولا نباحث في هذا الكتاب ورموزه إلا مع المجتهد المتأله أو الطالب للتأله.. وأقل درجات قارئ هذا الكتاب أن يكون قد ورد عليه البارق وصار وروده ملكةً له.. وغيره لا ينتفع به أصلاً… فمن أراد البحث وحده فعليه بطريقة المشائين.. فإنها حسنة للبحث وحده محكمة.. وليس لنا معه كلام… ومباحثه في القواعد الإشراقية.. بل الإشراقيون لا ينتظم أمرهم دون سوانح نورية… فإن من هذه القواعد ما يُبتنى على هذه الأنوار.. وكما أنَّا شاهدنا المحسوسات وتيقَّنا بعض أحوالها ثم بنينا عليها علوماً صحيحة كالهيئة وغيرها… فكذا نشاهد من الروحانيات أشياء ثم نبني عليها.. ومن ليس هذا سبيله فليس من الحكمة في شيء وسيلعب به الشكوك) انتهى كلامه..
.
وفي المنشور القادم سنقف عند الأسفار الأربعة التي يقطعها السالك في سفره إلى الحق تعالى.. دمتم بخير والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته..
………………………………….