بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلي على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المعصوم
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا
وجنوده هم الملائكة والروح
تنبئنا قصة نبي الله وكليمه موسى في سورة الكهف المباركة مع العبد الصالح على نبينا وآله وعليهما السلام عن وجود عدة درجات للعصمة قد تصل الى أربعة درجات وربما أكثر، وبينت لنا كذلك أن سبب تفاوت درجات العصمة يعود لتفاوت درجات العلم والمعرفة التي يعلمها رب العالمين لصاحب كل درجة منهم
وأوّل درجات العصمة أو أقلها عصمة من التي بينتها لنا القصة هي درجة عصمة نبي الله وكليمه موسى على نبينا وآله وعليه السلام
ودرجة عصمته الدانية هذه كما تقول لنا الروايات قد أباحت له او دفعته في أحد المواقف مع العبد الصالح أن يغضب منه غضبا كبيرا حتى أمسك به وجلد به الأرض، يعني حمله عاليا وضرب به الأرض بقوة ، تماما كما يفعل المتصارعون ببعضهم البعض في حلبات المصارعة
لكنه رغم ذلك غير مأثوم على فعلته تلك والتي سببها كان مبلغه المحدود من العلم ،، ولا يكلف الله نفسا الا وسعها
أمّا درجة العصمة الثانية فهي درجة عصمة العبد الصالح عليه السلام وهو أحد جنود الله في الأرض
ودرجة عصمته هذه أباحت له بقرار آني اتخذه بنفسه من أن يخرق سفينة المساكين ويعيبها فيقطع رزقهم لفترة معينة من الزمان
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا
فالقرار في إعابة سفينة المساكين كان قراره الذاتي ومن علمه الذي علمه إيّاه رب العالمين ولم يستشر فيه أحد غيره
وهو أيضا غير مأثوم على فعلته هذه ، فدرجة علمه أباحت له أن يعيبها بقرار ذاتي اتخذه من نفسه وحسب علمه لحماية المساكين
ويبدو أن حدود علمه وقراراته الذاتية التي لا يرجع بها لمن هم أعلى منه تقتصر على حماية المساكين من ظلم المستكبرين في مواقف معينة وبقرارات وأفعال قد تبدو للناس أنها عدائية او غير مفهومة او غير مبررة ، بغضّ النظر إن كان هؤلاء المساكين من المؤمنين أو من غير المؤمنين ، وذلك بغرض الحفاظ على درجة من الموازنة بين الظالمين والمساكين في هذه الأرض، فلا يطغى الظالمون فيها طغيانا كبيرا تنعدم معها جميع فرص الحياة للمساكين
أمّا درجة العصمة الثالثة فهي درجة عصمة المجموعة التي كلفته بقتل الطفل والذي كان من المفترض أن يرهق والديه المؤمنين طغيانا وكفرا حين يشبّ ويكبر
ويبدو أن مهمة هذه المجموعة من جنود الله في الأرض هي أن تمحوا ظهور ما محاه نون من المقادير التي أثبتها القلم في الكتاب سابقا وأن تحرص بعد ذلك على ظهور ما أثبته نون منها
يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ
فالله يسطر بنون لعباده ما يشاء من المقادير الجديدة بدل تلك المقادير والأحداث والأرزاق التي كان قد قسمها وقدّرها وكتبها لهم سابقا
وهذه المجموعة من جنوده في الأرض مهمتها أو وظيفتها في الأرض هي أن تحرص على تهيئة مسرح الحياة لظهور تماما ما أثبته في كتابه وفي تمام موعد ظهور الذي أثبته
فهذه المجموعة من جنود الله في الأرض تصلها التحديثات أولا بأول ومن مصدر أعلى منها في عالم الأمر على ما تم محوه واثباته من الأحداث التي تقرر أن تتنزل الملائكة والروح بها ، وهي بدورها تقوم على الأرض بعمل اللازم لخلق حالة التناغم بين ما تم تقريره بعالم الأمر وبين ما سيتم إظهاره فعلا في عالم الخلق
والعبد الصالح أضاف نفسه هنا لهذه المجموعة المعصومة من جنود الله لأنّه الجندي المنفذ منهم لهذا الأمر ،، فهو معصوم ضمن عصمة هذه المجموعة المنفّذة، لكنه لا يتخذ بنفسه أو لوحده القرارات التي تشبه قرار قتل الطفل لغرض استبداله بغيره
أما درجة العصمة الرابعة أو الأعلى التي تبيح لصاحبها أن يقرّ او أن يصدر تلك القرارات المختلفة التي قد يتخذها جنوده في الأرض من أنفسهم أو أن ينفذونها بعد أن تصلهم المعلومات المطلوبة فلقد أثبتها العبد الصالح لرب موسى على نبينا وآله وعليه السلام
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا
فصاحب القرار المباشر في تدبير أمور كل أفراد مجموعة الصالحين هو الله رب العالمين أو هو رب موسى على نبينا وآله وعليه السلام
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ
من هو رب موسى؟
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى
انه من كلم موسى من الشجرة على طور سيناء، ولقد كتبنا في هذا الأمر مقال أوضحنا اعتقادنا به من خلال بعض الآيات والروايات.
رب موسى هو رب العالمين، ورب العالمين تعني أنه هو من يربّي العالمين
والمربي له أن يثيب ويعاقب من يربيهم حسب علمه المطلق وقدرته المطلقة وحكمته المطلقة
ورب العالمين لا يثيب ويعاقب عباده بشكل عشوائي ومزاجي رغم انه يستطيع ذلك وله كامل الحرية في أن يفعل ذلك، لكنه يثيب ويعاقب حسب قانون واحد ثابت وساري على الجميع وهو:ـ
وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
والتربية هي نفسها عملية التعذيب، حيث قلنا سابقا أن فعل التعذيب أصله من العَذْب
وقلنا حينها أن التعذيب هو زيادة العذوبة
فعندما يكون عندك ماء عذب وتضع به بعض الملح فإنّك قمت حينها بتمليحه أي انك قمت بزيادة ملوحته
لكنك عندما تقوم بسحب نفس ذلك الملح من نفس الماء فإنك تقوم حينها بتعذيبه أي انك تقوم بزيادة عذوبته
ورب العالمين عندما يربي فغرضه وهدفه من التربية هو أن ينقّي من يربيهم من جنود الجهل،، أي ينقيهم من مساوئ الأخلاق فلا يبقى فيهم إلا مكارم الأخلاق
فرب العالمين عندما يربّي عباده تربية شديدة فإنه يعذّبهم عذابا شديدا بمعنى أنه ينقّيهم تنقية شديدة
فنحن على المستوى الفردي عندما نربي أبنائنا فان هدفنا من التربية هو أن ننشأهم نشأة صالحة وأن نغرس بهم القيم والمبادئ الحسنة والجميلة، وبنفس الوقت نسعى كذلك لأن ننقيهم من العادات والاخلاق السيئة
وعندما نعاقبهم لسوء فعل فعلوه فذلك لأننا نريد أن ننقّيهم من ذلك السوء لكي لا يعودوا للأنطلاق منه مرة أخرى في أفعالهم
وهكذا هو هدف رب العالمين من تربيته أو من تعذيبه للعالمين
فهو يريد تنقيتنا من تلك الطينة التي عُجنت بماء الملح الأجاج والتي خلطت بطينتنا التي عُجنت بالماء العذب الزلال
فحين يربينا ربنا رب العالمين او حين يعذبنا فانه يريد ارجاعنا كما كنا في بداية خلقنا من فاضل طينتهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين عذبين صافين من الكدورات وفي أحسن تكوين
مقطع من رواية جنود العقل والجهل للامام الصادق عليه السلام :ـ
ـ((فلا تجتمع هذه الخصال كلها من أجناد العقل إلا في نبي أو وصي نبي، أو مؤمن قد امتحن الله قلبه للايمان
وأما سائر ذلك من موالينا
فإن أحدهم لا يخلو من أن يكون فيه بعض هذه الجنود
حتى يستكمل وينقي من جنود الجهل
فعند ذلك يكون في الدرجة العليا مع الانبياء والاوصياء
وإنما يدرك ذلك بمعرفة العقل وجنوده، وبمجانبة الجهل وجنوده، وفقنا الله وإياكم لطاعته ومرضاته.))ـ
وحينها فقط سنكون مؤهلين لأن نعود لهم ومعهم وإلى حيث أصلنا ومنبعنا في السماء
ومع أهل السماء الذين كلهم خُلقوا من طينتهم ثم خُلطت طينتهم بالطينة المعجونة بالماء الملح الاجاج ثم تم تعذيبهم بعد ذلك عذابا شديدا في عوالم الخلق حتى عادت طينتهم لأصلها فرفعوهم حينها معهم الى عالم السماء ليتشاركوه معهم
نعود للعصمة ونذهب لأمير المؤمنين عليه السلام لنرى ما هو أساس وسبب العصمة ولماذا أن العصمة هي درجات متفاوتة وليست درجة واحدة
من حديث طويل لأمير المؤمنين مع طارق بن شهاب يصف له به مواصفات من يتسنم منصب الإمامة أقتطع لكم منه هذا المقطع الذي به تبيان حقيقة الامامة ومنبع العصمة:
ـــــــوالإمام يجب أن يكون
عالما لا يجهل، وشجاعا لا ينكل،
لا يعلو عليه حسب، ولا يدانيه نسب،
فهو في الذروة من قريش والشرف من هاشم، والبقية من إبراهيم
والنهج من النبع الكريم، والنفس من الرسول والرضى من الله، والقبول عن الله
فهو شرف الأشراف، والفرع من عبد مناف
عالم بالسياسة قائم بالرياسة
مفترض الطاعة، إلى يوم الساعة
أودع الله قـــــلــــبــــه سـِــــــــرّه
وأنــــــــــــطـــق بـــــــــــه لســـــــانــــــــــه
فــــهــــو مـــعـــــــصـــــــوم مـــــوفّـــق
ليس بجبان ولا جاهل
فتركوه يا طارق، واتبعوا أهواءهم (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) .
والإمام يا طارق بشر ملكي وجسد سماوي
وأمر إلهي وروح قدسي
ومقام علي ونور جلي وسر خفي
فهو ملكي الذات إلهي الصفات
زائد الحسنات عالم بالمغيبات
خصّا من رب العالمين، ونصّا من الصادق الأمين
وهذا كله لآل محمد صلى الله عليه وآله لا يشاركهم فيه مشارك، لأنهم معدن التنزيل، ومعنى التأويل وخاصة الرب الجليل ـــــــ …………إنتهى النقل
سرّ العصمة إذن ومنبعها الأصيل كما بينها لنا أمير المؤمنين هنا بهذا القول البليغ المختصر:
أودع الله قلبه ســـــــــرّه
وأنــــــــــــطق بـــــــــــه لســـــــانــــــــــه
فهو معـــــــصـــــــوم مـــــوفّق
ليس بجبان ولا جاهل
.
فالناطق على لسان الإمام المعصوم هو سرّ الله الذي أودعه في قلبه
وسرّ الله كما تبين لنا سابقا والذي لم يخرج منه إلا إليه هو الإسم المكنون المخلوق
إنه الرقم تسعة سرّ الوجود وروحه الذي طلما تحدثنا عنه في مقالات سابقة وكثيرة
وقلنا فيها أن الإسم المكنون المخلوق مكنون في كل الخلائق المخلوقة في هذا الوجود المخلوق
إنه مكنون في صغيرها المخلوق مهما صغر ومكنون كذلك في كبيرها المخلوق مهما كبر
فهو كإسم مكنون مخلوق مكنون بكل الاسماء العظمى والحسنى المخلوقة وينطق من قلوبها على لسانها جميعها، لكنه ينطق على لسان كل إسم مخلوق منها بحسبه ومقداره.
عصمة جنود الله في الأرض وفي السماء من الملائكة والروح أيضا تختلف درجاتها باختلاف مقاماتها ووضائفها ومهامها.
فالإسم المكنون المكنون في جنود السماوات والأرض هو من ينطق على ألسنتهم جميعهم ،، لكنه ينطق على لسان كل واحد منهم حسب مقامه ودرجته ومهمته وحاجته من العلم في كلّ آن من الآنات
فَهُمْ وأقصد جنود الله في سمائه وأرضه من الملائكة والروح لا يعلمون بكل شيء دفعة واحدة، لكنهم سيعلمون أي شيء يريدون معرفته في أي موقف يواجهونه بمجرد أن يشاؤون معرفته، فالاسم المكنون سينطق حينها من قلبهم على لسانهم بتمام وكمال ما يريدون معرفته في ذلك الموقف
فالإسم المكنون المخلوق قد أودع الله المعنى المعبود به علم ما كان وما يكون من الأمور الى انقضاء الساعة كعلم إجمالي لا تفصيل به والملائكة والروح يطلبون من هذا العلم ما يحتاجونه منه في أي موقف يواجهونه
فهم حين يُعملون مشيئتهم ويطلبون بها ما يريدون من تفاصيل العلم فإنهم بذلك يساهمون في إظهار تفاصيل العلم الالهي المجمل والمودع بالإسم المكنون وإخراجه من حالة مكونه وإجماله لحالة ظهوره وتفصيله ، علم بعد علم ، لما يحدث بالليل والنهار، الأمر من بعد الأمر، والشيء بعد الشيء إلى يوم القيامة
لكن هل يوجد درجة عصمة هي أكبر أو أعلى من درجة عصمة رب العالمين؟
بالتأكيد لا يوجد من له درجة عصمة أكبر من درجته
فرب العالمين هو نفسه نفس الاسم المكنون لكنه هو الظاهر بين الخلق
فالاسم المكنون حين أراد أن يتجلّى بنفسه تجلى بالامام المعصوم الذي هو رب العالمين
الاسم المكنون عندما اراد ان يتجلى بنفسه ويظهر بين الخلائق تجلى بإسمين يمثلانه أكمل وأتم وأجلى تمثيل
تجلى بالاسم المخلوق الله ، وتجلى بالاسم المخلوق الرحمن
فإذا أردت أن تتوجه للاسم المكنون وتدعوه فلا فرق حينها ان توجهت للاسم المخلوق الله ودعوته او ان توجهت للاسم المخلوق الرحمن ودعوته
فالاسم المكنون هو المشيئة التي خلقها الله المعنى المعبود بذاتها وخلق الأشياء بها
والكتاب المكنون الذي له أربعة عشر وجه هو وجه الإسم المكنون الذي اينما ولّيت وجهك فثمّ هو
الكتاب المكنون الذي استكنّ به الاسم المكنون هو اسم مخلوق لكنه لن يفنى حتى وإن فني كل من عليها
ولذلك لا توجد درجة عصمة أكبر من درجة عصمة إمام العالمين وربهم، لأنه هو العصمة بحد ذاتها وهو من يهب العصمة لمن يشاء من جنوده ومخلوقات مملكته
وهو نفسه من رآه نبينا صلى الله عليه وآله في الأفق الأعلى وكذلك هو نفسه من رآه حين دنا وتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى / وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى / ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى / عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى ـالكونداليني
وصلى الله على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين