□ بين الحرق والحرقة وبين الخرق والخرقة

  • Creator
    Topic
  • #1451
    Tasneem
    Keymaster
    • المشاركات: 2,176
    بوارق وإشراقات في العرفان والتصوف -4-
    (بين الحرق والحرقة وبين الخرق والخرقة)
    بقلم الفقير لله تعالى: أحمد يوسف نده
    (طرطوس: الخميس 19-4-2018م)
    ……………………………………………..
    وردت هذه المصطلحات في كلمات قدماء الصوفية والعرفاء.. ولكن المتأخرين ممَّن يدَّعون هذا العلم الشريف والذين لم يأخذونه عن سند صحيح.. فهموا هذه العبارات على عكس ما أراده الأكابر والثقات.. فانحرفت هذه الألفاظ عن صراطها المعنوي.. فوقعوا في الشبهات والمغالطات العلمية والسلوكية..
    .
    الحرقة والحرق:
    …………………
    أما الحرق فقد ظنَّ البعض أن معناه الفناء الوجودي أو الاتحاد.. وقد ثبت بطلان ذلك عقلاً ونقلاً.. فهذا يدل على أن العرفاء لم يقصدوا هذا المعنى الساذج.. بل أرادوا أمراً آخر.. هو رمز على أمر وجودي.. ألا وهو استقبال الفيض الوارد عن الحق تعالى.. وتحمّل هذا الفيض من العلوم والأسرار والمشاهدات وقبولها هو بمثابة الحرق.. إذ أن العارف سيتحرر من المعارف التي كانت منوطة بمرتبته فيحرقها.. لينتقل إلى درجة أعلى أشد وجوداً وأقوى نوراً..
    فما كان عليه من معارف إنما هي كمال بالنسبة لما دونها.. إلا أنها بعينها قيدٌ بالنسبة للمراتب الأعلى.. فهذا الفيض يحمل في طيَّاته امتحان علمي يحرق ما ألفه السالك في مراتبه.. فإن كان السالك مستحقاً ومستعداً لبلوغ تلك الدرجة حصل الاحتراق.. فارتقى بذلك درجة في الكمال.. وتحرَّر من قيد تلك المرتبة وحصلت (الحرقة)..
    .
    وليس الأمر مقتصر على حرقة واحدة.. بل في كل ارتقاء وجودي هناك احتراق في المعارف المقيدة وقبول للمعارف الأرقى وارتقاء في الكمالات..
    ومثالها القرآني العميق هو قوله تعالى ((وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين)).. فأعقب هذه الرؤية الإبراهيمية ارتقاؤه إلى مقامٍ عالٍ في التوحيد الإلهي.. ما أدَّى به إلى كسر أصنام تلك المرتبة التي كان يعيشها الناس من حولها.. فرموه في نار الاحتراق ليفنُوا وجوده إذ اعتبروه كافراً بأصنامهم.. إلا أن توحيده للحق جل جلاله وارتقاؤه في مراتب القرب من الله تعالى وتكامله في الوجود المجرد المنزَّه عن الماديات.. أورثه من النار البرد والسلام..
    .
    (فائدة سلوكية علمية): هذا ليس إلا مثال تعليمي إذ يتوجب على السالك في المعارف الملكوتية ألا يحرق أصنام مرتبته حتى يتحقق من الفيض الوارد عليه ويقبله.. وينكشف له ملكوت المرتبة التي تفيض عليه بما يورثه اليقين.. فهذا الفيض المقبول هو الذي سيجعل نار تلك الحرقة برداً وسلاماً عليه.. وإلا احترق بنار الشك والحيرة وكانت عليه وبالاً..
    .
    الخرقة:
    …………….
    إن حصلت (الحرقة) للسالك بأن حرق مقاماً وارتقى لآخر.. استلزم هذا الأمر (خرقة) تكسوه في مرتبته الوجودية الجديدة… فإن كل (حرقة) تستتبع (خرقة).. وليس الأمر كما يظن الكثير ممن ابتعد عن جادة العرفاء الموحدين فوقفوا  عند الجدران وحُرموا من كنز العرفان.. بأن (الخرقة) عبارة عن لباس يعطيه المرشد لمريده.. فهؤلاء لا يميزون بين مقام التجرد ومقام الحس.. إنما الخرقة التي يحصلها السالك هي درجة ملكوتية يرتقيها بروحه فتكتسي بكسوة من نور الحق وخضرة من روح الجنة وريحانها.. وليست لباساً مرده إلى خيوط مغزولة من صوف حيوان أو جلد بهيمة..
    .
    (فائدة سلوكية عملية): وهذا الخلط بين مقام اللب والقشر.. أدَّى بالضعفاء والعامة إلى استنكار أحوال الصوفية والعرفاء المحققين.. والوقوع في حبال من يدَّعي التصوف من المشعوذين.. إذ ظنوا بأن العبرة في الخرقة واللباس.. فركضوا خلف القشور فحُجبوا عن الحقائق..
    فمن اتخذ من التصوف والعرفان والدين تجارة دنيوية تجده يخالف الناس في ملبسه.. ظناً منه أن خرق الخرقة يعني التقشف وإظهار الفقر.. للتأثير على مشاعر الناس وعواطفهم واستمالتهم إلى بساطته.. فإن استغنى بين قومه تجده  يخالفهم في ملبسه ويتكبَّر عليهم في مظهره ولا يراعي لهم شعوراً ويدعي أن ذلك من التحدُّث بنعم الله..
    أما الصوفي الحقيقي فلا ينظر إلى الملبس كعنوان لتصوفه.. بل هو يعيش كما يعيش قومه.. فإن كان الزمن زمن فقر لبس الفقر وآنس الناس بما يأنسون منه.. وإن كان الزمن زمن غنى ورفاهية وسعة لبس مما منَّ الله تعالى عليه.. وهذا ما أخبر عنه الإمام الصادق عليه السلام حينما استنكر بعض أصحابه لباسه الفاخر وقارنوا بينه وبين أمير المؤمنين علي عليه السلام.. فأجابهم بأن زمن الإمام علي ع زمن فقر فلبس كما يلبس الناس وإن كان عنده بيت المال.. أما زمنه هو فزمن سعة فلبس ما يلبسه الناس..
    .
    وهذا مردُّه أيها الأحبة إلى أن الذي ميَّزه الله تعالى من حيث قوة الروح والعلم والأخلاق.. لا ينظر إلى الأمور الزائلة ولا يأبه للتمايز بها.. أما من كان في روحه مساوياً للعوام أو دونهم وأراد التميز.. فإنه لن يجد إلا اللباس والخِرَق ليتميز بها..
    ومن هنا نفهم قول الجنيد رضي الله عنه عندما سُئل عن لباسه للجبة الفاخرة وعدم ارتدائه للصوف الذي يميز هؤلاء القوم عن غيرهم من الناس.. فقال: (إن حصلت الحرقة فلا عبرة بالخرقة)..
    .
    الخرق:
    …………….
    وأما الخرق الذي يقوم به العرفاء فليس هو (خرق العادة) فهذه مردُّها للمعجزة والكرامة وهي منحة من الله تعالى.. كما أنها ليست خرق اللباس والمظهر الذي يخالف به الناس ومظهرهم كي يشيروا إليه ويشتهر بينهم.. بل هو (خرق العادات الاجتماعية) التي يعيشها من حوله لغاية منفعتهم وهدايتهم وفائدتهم.. وهي أحد أمرين:
    .
    1- إن كان المجتمع من حوله قد آثر الإقبال على الدنيا والجشع والترف والسلطة والمظاهر.. فإنه يؤثر الانكفاء والزهد والوسطية في العيش والتواضع في الخُلُق كي تؤثّر موعظته فيهم.. ويذكرهم بالآخرة بسلوكه وأفعاله وعبادته..
    .
    2- وإن آثر المجتمع الكسل والخنوع والجهل والتخلف والانزواء الحضاري.. فإنه يُؤثر النشاط وإظهار العلم والحض على التقدم والاستفادة من الحضارة وتسخير أدواتها في نشر العلم والمنفعة.. وعدم الرضوخ والذل والانكسار..
    .
    فالصوفي في كل أفعاله يسعى إلى منفعة المجتمع الذي ينتمي إليه.. مُؤْثِراً غيره على نفسه.. وإن واجهوه بإساءات كظم غيظه.. فكساه الله تعالى بخرقة ملكوتية لا يراها من اعتاد النظر إلى الملابس وعمي عن رؤية بواطن الناس وسرائرهم…
    فيكون هذا الخرق (حجاباً) على أعين الخلق الضعفاء يحجبهم عنه وعن علومه.. ويكون هو بعينه (كشف) لطلبة الحق فيعرفون أن مرادهم عنده وحياة أرواحهم على يديه..
    .
    والمثال القرآني العميق في بيان الخرقين السابقين: هو قصة موسى والخضر عليهما السلام.. فالخرق الأول كان للسفينة حماية لها ولأهلها المساكين.. مما حجبها عن الظالم فزهد بها..
    والخرق الثاني كان إعماره الجدار لحماية كنز اليتيمين.. من غير أن يتَّخذ أجرة على عمله.. وإن أصرَّ القوم على عدم استضافتهما.. لجهلهم بهما..
    .
    وفي كلا الفعلين كانت الغاية من الخرق هو منفعة الآخرين.. لا المنفعة الشخصية.. وهذا ما ميَّز الخضر عليه السلام.. وهو ما يميز الصوفي العارف الحقيقي.. في أنه يهدف للنفع الاجتماعي ويجعله أول أولوياته..
    فالعرفان والتصوف هو الإكسير الذي به حياة العلوم الإسلامية والدين الإسلامي.. لأنه يضفي على (العالِم والشيخ) مسحة ملكوتية تجعله ينظر إلى خير مجتمعه ومنفعة من حوله وإيثار ذلك على المنفعة الشخصية الضيقة.. بالإضافة إلى أنه يمنح العارف مرونة في تطبيق الأحكام وفقهها عند تغير الأزمان والظروف.. هذه المرونة هي (الخضرة) التي تخبر عن دوام حياة الدين في النفوس والمجتمعات.. كما يورثه حكمة ربانية هي التي تجعله يعرف طريقة مداواة أمراض مجتمعه والتأثير في وجدان أبنائه.. وبدون هذا الإكسير يصبح الدين لقلقة في اللسان.. ويجعله متحجراً ميتاً في صدور الناس بين متطرف يكفّر الآخرين أو منحرف يضل العباد الصالحين..
    .
    وهذا الفيسبوك كموقع للتواصل أضحى بيد شبابنا وأبنائنا.. لم يعد وسيلة رفاهية كما كان الأمر في بدايته.. بل أصبح سلاح يستغله العدو في تسميم أفكار أبنائنا..
    لكن الذين تحجَّروا وتذرَّعوا بالهيبة التي تمس الدين وقفوا موقف المتفرج واللامبالي.. بحجة أن هذا الفيسبوك شيء افتراضي مضحك سخيف صبياني.. في الوقت الذي ينزلق فيه شبابنا بيد من ينشر الإلحاد والتشكيك والانحراف..
    بل حتى إن الكثير من الأصدقاء رأى أن دخولنا الفيسبوك ونشرنا فيه كان عبارة عن ضرب لصورتنا ومكانتنا.. ولم يخل الأمر من استهزاء وتهجُّم علينا..
    فأقول أنه ليس مبتغاي صورتي ومدى لمعانها.. بل مبتغاي الخدمة في نشر الخير والفائدة في زمن كثر فيه الدجالون العاملون على غسل الدماغ والعقول.. بما يفسد على أبنائنا دينهم ودنياهم.. فلو استفاد مني شخص واحد فهذا يكفيني.. أما الهيبة والمكانة السامية فإن لم تكن في خدمة الدين والناس فبئساً لها وتعساً.. وكفى بها حجَّة على صاحبها يوم يقف بين يدي من له الحجة البالغة على الناس.. ولست في هذا أفضل حالاً ممن سبقنا.. فلنا أسوة بالبهلول الذي امتطى عصاه بأمر مولاه.. فقام بنشر الحكمة والحجة والموعظة بلسان أهل الجنون.. وهذا (خرق آخر) فيه من (الحرق) ما ليس في النار المتوهجة.. ولا يتحمَّله إلا من تجرد عن تعظيم الأنا الشخصية في خدمة المجتمع وتقديم الخير والعلم والمحبة..
    ………………………………….
  • The forum ‘التعريف بعلم التصوف والعرفان – أحمد نده’ is closed to new topics and replies.